زود النبي محمد (ص) وصيه وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (ع) بكوكبة من الحكم والآداب لتكون منهجاً مشرقاً لا له فحسب، وإنما لجميع المسلمين، ونذكر قطعاً من تلك الوصايا من دون أن نذكر النص الكامل لها، وفيما يلي ذلك:
الوصية الأولى
قال النبي محمد (ص) في وصيته الأولى للإمام أمير المؤمنين (ع): يا عَلِيُّ، إِنَّ مِنَ الْيَقِينَ أَنْ لَا تُرْضِيَ أَحَداً بِسَخَطِ اللَّهِ، وَلَا تَحْمَدَ أَحَداً بِمَا أَتَاكَ اللهُ، وَلَا تَذُمَّ أَحَدَاً عَلى ما لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ، فَإِنَّ الرِّزْقَ لَا يَجُرُّهُ حِرْصُ حَرِيضٍ، وَلَا تَصْرِفُهُ كَرَاهَةُ كَارِهِ. إِنَّ اللَّهَ بِحُكْمِهِ وَفَضْلِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضا، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكُ وَالسُّخْطِ.
حكى هذا المقطع بعض الأمور البالغة الأهمية، وهي:
١- إنه ليس من المنطق، ولا من الفكر لأي إنسان أن يُرضي غيره، ويتقرب منه بسخط الله تعالى خالق الكون، وواهب الحياة، الذي ترجع إليه جميع مجريات الأحداث، وغيره لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً.
٢- إن الإنسان الذي يملك وعيه ورشده ليس له أن يمدح أو يذم غيره على متع الحياة الدنيا، فإنّ الرزق لا يجلبه الحرص، ولا تصرفه الكراهية، وإنما هو بيد الله تعالى يبسطه لمن يشاء، ويقتره على من يشاء.
3- إن الله سبحانه وتعالى أناط الروح والفرج باليقين والرضا، وأناط الهم والحزن بالشك والسخط…
ولنستمع إلى بند آخر من هذه الوصية:
يا عَلِيُّ، إِنَّهُ لا فَقْرَ أَشَدُّ مِنَ الْجَهْلِ، وَلا مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ، وَلَا وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ، وَلا مُظَاهَرَةَ أَحْسَنُ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ، وَلَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَلَا عِبَادَةَ كَالتَّفَكَّرِ.
حفل هذا المقطع ببعض النصائح الذهبية التي تعود على الإنسان بأسمى المنافع، وهي:
١- إن الجهل آفة مدمرة للإنسان، ومهلكة له، وأن أعظم ما يربحه هو أن يسير على ضوء العقل، ويهتدي بهديه.
2- إن من مرديات الإنسان عجبه بنفسه، فإنّ ذلك يزهده في مجتمعه، ويجلب له الويل والعطب.
3ـ من محاسن الأمور مشاورة الإنسان لغيره في مهامه، وعدم استبعاده فيها، فإن ذلك يجلب له الرأي الأصيل، ويجنبه الكثير من الأزمات.
4- إن تدبير الإنسان لشؤونه الاقتصادية والاجتماعية دليل على وفور عقله.
5- إن التفكر في عجائب مخلوقات الله تبارك تعالى والتدبّر في شؤون المجرات التي تذهل كل كائن حي، فإن ذلك من أفضل ألوان العبادة، فإنها تقود إلى الإيمان المطلق بوجود الخالق العظيم.
ولننظر إلى فقرة أخرى من هذه الوصية: يا عَلِيُّ، آفَةُ الْحَدِيثِ الْكِذْبُ، وَافَةُ الْعِلْمِ النَّسْيانُ، وَآفَةُ الْعِبَادَةِ الْفَتْرَةُ، وَآفَةُ السَّمَاحَةِ الْمَنُّ، وَآفَةُ الشَّجَاعَةِ الْبَغْيُ، وَآفَةُ الْجَمَالِ الْخُيَلاءُ، وَآفَةُ الْحَسَبِ الْفَخْرُ.
حوت هذه الفقرات الآفات والمضادات للأمور التالية، وهي:
1- إن آفة الحديث الكذب، فإنّه لا يبق له أية مصداقية، ويجعله هباءً.
2- أما العلم فآفته الكبرى النسيان، فإنّه ينسفه ويجعله شعاعاً في الفضاء.
3- أما العبادة فآفتها عدم الاتصال والاستمرار فيها..
4- أما آفة السماحة والبر فهي المن على من أحسن إليه وير به.
5- أما الشجاعة فإنّها من مميزات الإنسان، وآفتها البغي على الغير.
6- أما الجمال فأفته الكبرى الخيلاء على الغير.
7ـ من آفات الحسب الفخر على الغير.
وهذا بند آخر من وصية النبي محمد المصطفى (ص) للإمام أمير المؤمنين (ع): يا عَلِيُّ، عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ، وَلا تَخْرُجْ مِنْ فِيكَ كِذَّبَةٌ أَبَداً، وَلَا تَجْتَرِئَنَّ عَلَى خِيانَةٍ أَبَداً؛ وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ كَأَنَّكَ تَراهُ. وَابْذُلْ مَالَكَ وَنَفْسَكَ دُونَ دِينِكَ، وَعَلَيْكَ بِمَحاسِنِ الْأَخْلاقِ فَارْكَبْهَا، وَعَلَيْكَ بِمَسَاوِي الْأَخْلَاقِ فَاجْتَنِبْهَا.
أوصى النبي محمد (ص) وصيه وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (ع) بالأمور التالية:
١- أوصاه بالصدق الذي هو من أفضل الصفات وأميزها، ونهاه عن الكذب الذي هو من أرذل الصفات.
٢- حذره من الخيانة لأي إنسان، صديقاً أو عدواً، فإنها من مساوئ الصفات.
3- أوصاه بالخوف من الله تعالى، فإنّ من خافه لا يقترف أي مأثم من مآثم الحياة.
4- أكد النبي محمد (ص) على حماية الدين وصيانته، والذب عنه بجميع الوسائل؛ لأنه جوهرة الحياة الرفيعة.
5- أوصى النبي (ص) بالتحلي بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، والاجتناب عن مساوئ الأخلاق.
وهذا بند آخر من هذه الوصية: يا عَلِيُّ، أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ – تَعالى – ثَلاثُ خِصَالٍ: مَنْ أَتَى اللَّهَ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ أَعْبَدِ النَّاسِ، وَمَنْ وَرِعَ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ أَوْرَعِ النَّاسِ، وَمَنْ قَنِعَ بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ فَهُوَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ.
هذه الخصال الثلاث تقرب الإنسان إلى ربه، وتجعله في مصاف أوليائه، وتبعده عن مساوئ الحياة.
ومن بنود هذه الوصية قول النبي محمد (ص): يا عَلِيُّ، ثَلاثٌ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلاقِ: تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ.
إن من يتصف بهذه الصفات الرفيعة فقد بلغ ذروة الكمال والفضل.
وهذه قطعة من الوصية: يا عَلِيُّ، ثَلاثٌ مُنْجِياتٌ: تَكُفُ لِسَانَكَ، وَتَبْكِي عَلَى خَطِيئَتِكَ، وَيَسَعُكَ بيْتُكَ.
إن من أخذ بهذه الوصية فقد نجا من شر الناس، وسلم من موبقاتهم وآثامهم.
وهذا بند آخر من وصية النبي محمد (ص) للإمام أمير المؤمنين (ع): يا عَلِيُّ، سَيِّدُ الْأَعْمَالِ ثَلاثُ خِصال: إِنصافُكَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمُساواة الْأَخِ فِي اللَّهِ، وَذِكْرُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حالٍ.
إن هذه الخصال الرفيعة من أفضل الصفات التي يسمو بها الإنسان ويتميز على غيره.
وهذه قطعة أخرى من الوصية: يا عَلِيُّ، ثَلَاثَةٌ مِنْ حُلَلِ اللهِ: رَجُلٌ زارَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ فِي اللَّهِ فَهُوَ زَوْرُ اللَّهِ؛ وَحَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ يُكْرِمَ زَوْرَهُ وَيُعْطِيَهُ ما سَأَلَ، وَرَجُلٌ صَلَّى ثُمَّ عَقَّبَ إِلَى الصَّلاةِ الْأُخْرَى فَهُو ضَيْفُ اللَّهِ؛ وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ ضَيْفَهُ، وَالْحَاجُ وَالْمُعْتَمِرُ فَهُما وَقْدُ اللَّهِ؛ وَحَقُّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ وَفْدَه.
إن هذه الخصال الثلاث من أبرز ألوان العبادة التي توصل الإنسان إلى الله تعالى، وتقربه إليه، وقد حث النبي (ص) عليها ؛ لأنها من صفات الأبرار والمتقين.
وهذا بند آخر من الوصية: يا عَلِيُّ، ثَلاثَ ثَوَابُهُنَّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: الْحَجُّ يَنْفِي الْفَقْرَ، وَالصَّدَقَةُ تَدْفَعُ الْبَلِيَّةَ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ.
إن هذه الخصال الثلاث من اتصف بها فقد ظفر بخير الدنيا والآخرة.
ولنستمع إلى قطعة أخرى من الوصية: يا عَلِيُّ، ثَلاثَ مَنْ لَمْ يَكُنَّ فِيهِ لَمْ يَقُمْ لَهُ عَمَلٌ: وَرَعٌ يَحْجُزُهُ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعِلْمٌ يَرُدُّ بِهِ جَهْلَ السَّفِيهِ، وَعَقْلٌ يُدَارِي بِهِ النَّاسَ.
الورع عن محارم الله تعالى، والعلم الذي يرد به جهل السفيه، والعقل الذي يداري به الناس، هذه الأمور من تحلى بها فقد فاز في الدنيا والآخرة.
وهذا بند آخر من الوصية: يا عَلِيُّ، ثَلَاثَةٌ تَحْتَ ظِلَّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَحَبَّ لِأَخِيهِ مَا أَحَبَّ لِنَفْسِهِ، وَرَجُلٌ بَلَغَهُ أَمْرٌ فَلَمْ يَتَقدَّمْ فِيهِ وَلَمْ يَتَأَخَّرْ حَتَّىٰ يَعْلَمَ أَنَّ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ اللهِ رِضَى أَوْ سَخَطٌ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعِبْ أَخَاهُ بِعَيْبٍ حَتَّى يُصْلِحَ ذَلِكَ الْعَيْبَ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ كُلَّما أَصْلَحَ مِنْ نَفْسِهِ عَيْباً بَدا لَهُ مِنْهَا آخَرُ؛ وَكَفَى بِالْمَرْءِ فِي نَفْسِهِ شغلاً.
إن هذه الخصال من صميم الحكمة التي يتصف بها الأولياء والمتقون الذين وهبوا حياتهم الله تعالى، وتجردوا من النزعات المادية.
ولننظر إلى مقطع آخر من هذه الوصية: يا عَلِيُّ، ثَلاثٌ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ: سَحَاءُ النَّفْسِ، وَطِيبُ الْكَلَامِ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذى.
بهذه الحكم والآداب كان النبي محمد (ص) يغذي بها وصيه وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (ع) ليكون امتداداً مشرقاً للنبوة.
ولنستمع إلى مقطع آخر من هذه الوصية: يا عَلِيُّ، فِي التَّوْرَاةِ أَرْبَعٌ إِلَى جَنْبِهِنَّ أَرْبَعٌ: مَنْ أَصْبَحَ عَلَى الدُّنْيَا حَرِيصاً أَصْبَحَ وَهُوَ عَلَى اللهِ ساخِطٌ، وَمَنْ أَصْبَحَ يَشْكُو مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ فَإِنَّمَا يَشْكُو رَبَّهُ، وَمَنْ أَتَى غَنِيّاً فَتَضَعْضَعَ لَهُ ذَهَبَ ثُلُنَا دِينِهِ، وَمَنْ دَخَلَ النَّارَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَهُوَ مِمَّنِ اتَّخَذَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوا وَلَعِباً.
أَرْبَعٌ إِلى جَنْبِهِنَّ أَرْبَعٌ: مَنْ مَلَكَ اسْتَأْثَرَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَشِرْ يَنْدَمْ، كَمَا تَدِينُ تدانُ، وَالْفَقْرُ الْمَوْتُ الْأَكْبَرُ. فَقِيلَ لَهُ: الْفَقْرُ مِنَ الدِّينَارِ وَالدَّرْهَمِ ؟ فَقَالَ: الْفَقْرُ مِنَ الدِّينِ.
وهذه الحكم من حكم السيد المسيح (ع)، وقد أقرها النبي محمد (ص) وأشاد بها؛ لأنها من صميم الآداب والأخلاق.
وهذا بند آخر من هذه الوصية: يا عَلِيُّ، كُلُّ عَيْنِ بِاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا ثَلَاثَ أَعْيُنٍ: عَيْنٌ سَهَرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ غُضَّتْ عَنْ مَحارِمِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ فَاضَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.
إن هذه العيون الثلاث آمنت بالله، وسهرت على طاعته، وغضت عن محارمه، فهي لا تبكي من هول يوم القيامة، وتكون في أمن من عذاب الله سبحانه وتعالى.
وهذا مقطع آخر من هذه الوصية: يا عَلِيُّ، طُوبَى لِصُورَةٍ نَظَرَ اللهُ إِلَيْهَا تَبْكِي عَلَى ذَنْبٍ لَمْ يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ.
إن من يقترف ذنباً وإثماً لم يطلع عليه أحد إلا الله تعالى، وأخذ في الندم عليه، وبكى على ذلك، فإنّ الله تعالى يمنحه بلطفه وعفوه.
وهذا بند آخر من هذه الوصية: يا عَلِيُّ، ثَلاثَ مُوبِقاتٌ وَثَلاثٌ مُنْجِياتٌ:
فَأَمَّا الْمُوبِقَاتُ: فَهَوى مُتَّبَعٌ، وَشُحٌ مُطَاعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا الْمُنْجِياتُ فَالْعَدْلُ فِي الرَّضا وَالْغَضَبِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنى وَالْفَقْرِ، وَخَوْفُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ كَأَنَّكَ تَراهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ.
حفل هذا المقطع بالموبقات التي تسبب هلاك الناس، وبعده عن الله تعالى، وهي:
1- اتباع الهوى والشهوات، فمن غرق فيها فقد هلك.
٢- الشح، وهو البخل الذي يبخل به على أهله ونفسه، وعلى كل مشروع خير.
3- إعجاب المرء بنفسه، فإنّه يصده عن كل خير، ويحجبه عن كل فضل.
وأما المنجيات من الأعمال والصفات فهي:
١- العدل الذي هو من أفضل الأعمال، العدل في الرضا والغضب.
2- القصد وعدم الإسراف في حال الغنى والفقر، فإنه يوجب عدم ضياع ثروات الإنسان.
3- الخوف من الله تعالى في السر والعلانية، فإنه يوجب مغفرة الله تعالى وعفوه.
وهذا بند آخر من هذه الوصية: يا عَلِيُّ، ثَلاثٌ يَحْسُنُ فِيهِنَّ الْكِذْبُ: الْمَكِيدَةُ فِي الْحَرْبِ، وَعِدَتُكَ زَوْجَتَكَ، وَالْإِصْلاحُ بَيْنَ النَّاسِ.
إن الكذب مقتض للقبح والإثم، ولكنه يزول قبحه وإثمه في المواضع الثلاثة التي ذكرها النبي (ص).
ولننظر إلى مقطع آخر من هذه الوصية: يا عَلِيُّ، ثَلاثٌ يَقْبُحُ فِيهِنَّ الصَّدْقُ: النَّمِيمَةُ، وَإِخْبَارُكَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِهِ بِمَا يَكْرَهُ، وَتَكْذِيبُكَ الرَّجُلَ عَنِ الْخَيْرِ.
الصدق مقتض للحسن، وصفة من أفضل الصفات، ولكنه يذهب حسنه في هذه المواضع الثلاثة التي يترتب على الكذب فيها الكثير من المنافع.
وهذا مقطع آخر من هذه الوصية: يا عَلِيُّ، أَرْبَعٌ يَذْهَبْنَ ضَلالاً – أي ضياعاً: الْأَكْلُ بَعْدَ الشَّبْعِ، وَالسِّراجُ فِي الْقَمَرِ، وَالزَّرْعُ فِي الْأَرْضِ السَّبْخَةِ، وَالصَّنِيعَةُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهَا.
إن هذه الأمور الأربعة تذهب ضياعاً ولا أثر لها، وتوجب الضرر والخسران، كالزرع في الأرض السبخة، والمعروف عند غير أهله.
وهذا بند آخر من هذه الوصية: يا عَلِيُّ، أَرْبَعٌ أَسْرَعُ شَيْءٍ عُقُوبَةٌ: رَجُلٌ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ فَكَافَأَكَ بِالْإِحْسَانِ إِساءَةً، وَرَجُلٌ لا تَبْغِي عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْغِى عَلَيْكَ، وَرَجُلٌ عَاقَدْتَهُ عَلَى أَمْرٍ فَمِنْ أَمْرِكَ الْوَفاءُ لَهُ وَمِنْ أَمْرِهِ الْغَدْرُ بِكَ، وَرَجُلٌ تَصِلُهُ رَحِمُهُ وَيَقْطَعُهَا.
إن هذه الأمور يعجل الله تعالى فيها العقوبة على من استحلها وسار عليها، فإنها من موجبات النقمة والعذاب من الله سبحانه وتعالى.
وهذا بند آخر من الوصية: يا عَلِيُّ، أَرْبَعٌ مَنْ يَكُنَّ فِيهِ كَمُلَ إِسْلامُهُ: الصَّدْقُ، وَالشَّكْرُ، وَالْحَيَاءُ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ.
إن من يتصف بهذه الصفات الرفيعة فقد كمل دينه وحسن إسلامه.
ولنستمع إلى الفقرة الأخيرة من هذه الوصية للإمام أمير المؤمنين (ع): يا عَلِيُّ، قِلَّةُ طَلَبِ الْحَوَائِجِ مِنَ النَّاسِ هُوَ الْغِنَى الْحَاضِرُ، وَكَثْرَةُ الْحَوَائِجِ إِلَى النَّاسِ مَذَلَّةٌ وَهُوَ الْفَقْرُ الْحَاضِرُ[1].
وانتهت بذلك هذه الوصية الذهبية التي تغذى بها الإمام أمير المؤمنين (ع) عملاق هذه الأمة، ورائد حضارتها الفكرية والعلمية، وقد غذاه النبي محمد (ص) بها وبمواهبه وعبقرياته، وأقامه علماً ومرشداً لأمته.
الوصية الثانية
قال النبي محمد (ص) في وصيته الثانية للإمام أمير المؤمنين (ع): يا عَلِيُّ، لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةٌ، إِلَّا سُوء الْخُلُقِ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ كُلَّمَا خَرَجَ مِنْ ذَنْبِ دَخَلَ فِي ذَنْبٍ[2].
إن سوء الخلق من أرذل الصفات، ومن مساوئ الخصال التي تلحق الإنسان بقافلة الحيوان الأعجم، وقد أكد النبي (ص) في كثير من أحاديثه على ضرورة الاتصاف بالأخلاق الرفيعة، والاجتناب عن الأخلاق السيئة.
الوصية الثالثة
قال النبي محمد (ص) في وصيته الثالثة للإمام أمير المؤمنين (ع): يا عَلِيُّ، أَفْضَلُ الجِهَادِ مَنْ أَصْبَحَ لَا يَهْتَمُّ بِظُلْمٍ أَحَدٍ.
يا عَلِيُّ، مَنْ خَافَ النَّاسُ لِسَانَهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
يا عَلِيُّ، شَرُّ النَّاسِ مَنْ أَكْرَمَهُ النَّاسُ اتَّقَاءَ فُحْشِهِ، وَأَذِى شَرِّهِ.
يا عَلِيُّ، شَرُّ النَّاسِ مَنْ باعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ، وَشَرٌّ مِنْهُ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ[3].
عرض الحديث إلى شرار الناس، وأكثرهم بعداً عن الله تعالى، وهم:
1- من خاف الناس سطوة لسانه.
2- من باع آخرته بدنياه.
3ـ من باع آخرته بدنيا غيره.
فهؤلاء ما لهم في الآخرة من نصيب، ومصيرهم الخسران والعذاب.
الوصية الرابعة
قال النبي محمد (ص) في وصيته الرابعة للإمام أمير المؤمنين (ع): يا عَلِيُّ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَذْهَبَ بِالْإِسْلَامِ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَفَاخُرَهُم بِآبَائِهِم، أَلَا وَإِنَّ النَّاسَ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، وَأَكْرَمَهُم عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاهُم[4].
إن الإسلام قد هدم الحواجز بين الناس، وألغى الفوارق والتفاضل بالأنساب، وجعل التمايز بينهم بالتقوى والعمل الصالح الذي هو أعظم رصيد للإنسان.
الوصية الخامسة
قال النبي محمد (ص) في وصيته الخامسة للإمام أمير المؤمنين (ع): يا عَلِيُّ، أَنَّهَاكَ عَنْ ثَلاثِ خِصال: الْحَسَدِ، وَالْحِرْصِ، وَالْكِبْرِ[5].
إن هذه الخصال من مساوئ الصفات التي تلقي الإنسان في شر عظيم، وتهبط به إلى مستوى سحيق ما له من قرار.
الوصية السادسة
قال النبي محمد (ص) في وصيته السادسة للإمام أمير المؤمنين (ع): يا عَلِيُّ، مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً لِيُماري بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يُجَادِلَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيَدْعُو النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ[6].
إن طلب العلم ينبغي أن يكون لكمال الإنسان، وتهذيب سلوكه، فإذا كان مشفوعاً بالأغراض الخاصة التي مالها إلى التراب، فلا يترتب عليه أجر، ويعود بالإثم عليه، ومن بين الأغراض التي ذكرها النبي الأكرم (ص):
۱- طلب العلم لمماراة السفهاء، والتغلب عليهم، فإن ذلك ينم عن مرض النفس وبعدها عن الله تعالى.
٢- طلب العلم لمجادلة العلماء، وإظهار الشخص نفسه أمام المجتمع بأنه من العلماء، فإنّ الدافع لذلك حب الدنيا، والتهالك على الجاه، وحب الظهور.
٣- طلب العلم لدعوة الناس إليه، والالتفاف حوله، أعاذنا الله تعالى – بلطفه وفضله – من هذه الآفات التي تحول بين الإنسان وربه.
الوصية السابعة
قال النبي محمد (ص) في وصيته السابعة للإمام أمير المؤمنين (ع): يا عَلِيُّ، بَادِرْ بِأَرْبَعٍ قَبْلَ أَرْبَعِ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِناكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَحَياتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ[7].
إن من بادر لاعتناق هذه الصفات فقد فاز فوزاً مبيناً، ونجا من مآثم الحياة.
الوصية الثامنة
قال النبي محمد (ص) في وصيته الثامنة للإمام أمير المؤمنين (ع): يا عَلِيُّ، أَحْسِنْ خُلُقَكَ مَعَ أَهْلِكَ وَجِيرَانِكَ وَمَنْ تُعَاشِرُ، وَتُصَاحِبُ مِنَ النَّاسِ تُكْتَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدَّرَجَاتِ الْعُلى[8].
إن الأخلاق الكريمة من أبرز الصفات الرفيعة التي يتحلى بها الإنسان، ومن أجملها حسن الأخلاق مع الأهل والجيران والأصحاب.
الوصية التاسعة
قال النبي محمد (ص) في وصيته التاسعة للإمام أمير المؤمنين (ع): يا عَلِيُّ، ثَلَاثَ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ: سَخاءُ النَّفْسِ، وَطِيبُ الْكَلَامِ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذى[9].
إن هذه الخصال الثلاثة من أبرز أبواب البر والإحسان، فسخاء النفس، وطيب الكلام والصبر على الأذى والمكروه هي من الأسس التربوية التي تبناها الإسلام.
هذه بعض وصايا النبي محمد (ص) إلى باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (ع)، وكلها تتعلق بآداب السلوك، ومحاسن الصفات والأعمال.
الاستنتاج
أن النبي محمد (ص) زود الإمام أمير المؤمنين (ع) بمجموعة من الوصايا التربوية التي تمثل منهجا قيما للمسلمين، وتضمنت الوصايا التأكيد على أهمية اليقين والرضا، وضرورة الابتعاد عن الجهل والعجب، مع التأكيد على مشاورة الآخرين، كما أوصى بالصدق، والخوف من الله، وحماية الدين، كما شملت الوصايا أيضا أهمية الأخلاق الحسنة، مثل العطاء والصبر، وضرورة التحلي بالعدل والورع، هذه الوصايا تهدف إلى بناء شخصية متكاملة تسهم في سعادة الفرد والمجتمع.
الهوامش
[1] الحرّاني، تحف العقول، ص٦ – ٩.
[2] الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج4، ص355.
[3] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج٦، ص٣٣٣.
[4] المجلسي، بحار الأنوار، ج77، ص53.
[5] المجلسي، بحار الأنوار، ج77، ص53.
[6] المجلسي، بحار الأنوار، ج77، ص54.
[7] المجلسي، بحار الأنوار، ج77، ص49.
[8] المجلسي، بحار الأنوار، ج77، ص67.
[9] المجلسي، بحار الأنوار، ج77، ص62.
مصادر البحث
1ـ الحر العاملي، محمّد، وسائل الشيعة، تصحيح وتعليق الشيخ عبد الرحيم الرباني الشيرازي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الخامسة، 1403 ه.
2ـ الحرّاني، ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1404 ه.
3ـ الصدوق، محمّد، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، قم، منشورات جامعة المدرّسين، الطبعة الثانية، بلا تاريخ.
4ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه.
مصدر المقالة (مع تصرف)
القرشي، باقر، موسوعة سيرة أهل البيت (ع)، تحقيق مهدي باقر القرشي، النجف، دار المعروف، الطبعة الثانية، 1433 ه، ج2، ص13 ـ ص25.