الحديث عن ولادة الإمام الرضا (ع) وما رافقها من أحداث، مع التركيز على نسبه الرفيع المتصل برسول الله (ص)، الذي يمثل مصدر الفيض والعطاء، ثم الإشارة الى تكنيته بأبي الحسن وأبي بكر، وذكر الاختلافات حول السنة والشهر الذي وُلد فيه، كما تناولنا صفاته، بما في ذلك هيبته التي تشبه هيبة الأنبياء، ونقش خاتمه الذي يعكس انقطاعه إلى الله، وإبراز نشأته في بيت الإمامة ومركز الوحي، والإشارة إلى تنبؤاته بالملاحم والأحداث التي تحققت لاحقا، مما يؤكد فضل وعلم أئمة أهل البيت (ع) كما منحهم الله تعالى.
الأب
أما أبو الإمام الرضا (ع) فهو الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام زين العابدين ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب (ع).
وليس في دنيا الأنساب أرفع ولا أزكى من هذا النسب، ومن المؤكد أن هؤلاء الأئمة الطاهرين (ع) هم خلفاء رسول الله (ص) وأوصياؤه.
الأم
أما أم الإمام الرضا (ع) فقد تحلت بجميع مزايا الشرف والفضيلة التي تسمو بها المرأة المسلمة من العفة والطهارة وسمو الذات، وهي من السيدات الماجدات في الإسلام، وكانت أمة، وهذا لا ينقص من شأنها ومكانتها؛ لأن الإسلام جعل المقياس في تفاوت الناس بالتقوى والعمل الصالح، ولا أثر لغير ذلك.
ونقل الرواة عدة أقوال في كيفية زواج الإمام موسى الكاظم (ع) بهذه السيدة الماجدة، وهذه بعضها:
1ـ إنها كانت من أشراف العجم، وكانت ملكاً للسيدة حميدة أم الإمام موسى الكاظم (ع)، وهي من أفضل النساء في عقلها ودينها وإعظامها لمولاتها السيدة حميدة، حتى إنها ما جلست بين يديها من ملكتها إجلالاً وإعظاماً لها، وقد قالت حميدة لابنها الإمام موسى (ع): يا بني، إن تكتم جارية، ما رأيت جارية قط أفضل منها، ولست أشك أن الله تعالى سيظهر نسلها، وقد وهبتها لك، فاستوص بها خيراً[1].
2ـ روى هشام بن أحمر، قال: قال أبو الحسن الأول ـ وهو الإمام موسى (ع) ـ: هَلْ عَلِمْتَ أَحَداً مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ قَدِمَ؟
قلت: لا.
فقال (ع): بَلَى قَدْ قَدِمَ رَجُلٌ، فَانْطَلِقْ بِنا إِلَيْهِ، فركب وركبنا معه، حتى انتهينا إلى الرجل، فإذا رجل من أهل المغرب معه رقيق، فقال له: اعْرِضْ عَلَيْنا، فعرض علينا تسع جوار، كل ذلك يقول أبو الحسن: لا حاجة لي فيها.
ثم قال له: اعْرِضْ عَلَيْنا.
فقال: ما عندي شيء.
فقال له: بَلَى اعْرِضْ عَلَيْنا.
قال: لا والله ما عندي إلا جارية مريضة.
فقال له: ما عَلَيْكَ أَنْ تَعْرِضَها، فأبى، ثم انصرف (ع)، ثم إنه أرسلني من الغد إليه، فقال لي: قل له: كَمْ غايَتُكَ فيها؟ فَإِذا قَالَ: كَذَا وَكَذَا – يعني من المال – فَقُلْ: قَدْ أَخَذْتُها، فأتيته، فقال له: ما أريد أن أنقصها من كذا – وعين مبلغاً خاصاً ـ فقلت: قد أخذتها وهو لك.
فقال: هي لك، ولكن من الرجل الذي كان معك بالأمس؟
فقلت: رجل من بني هاشم.
فقال: من أي بني هاشم؟
فقلت: من نقبائهم.
فقال: أريد أكثر من هذا.
فقلت: ما عندي أكثر من هذا.
فقال: أخبرك عن هذه، إنّي اشتريتها من أقصى المغرب، فلقيتني امرأة من أهل
الكتاب، فقالت: من هذه الوصيفة معك؟
فقلت: اشتريتها لنفسي.
فقالت: ما ينبغي أن تكون عند مثلك، إن هذه الجارية ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض، فلا تلبث عنده إلا قليلاً حتى تلد منه غلاماً يدين له شرق الأرض وغربها.
قال: فأتيته بها، فلم تلبث عنده إلا قليلاً حتى ولدت له علياً[2].
3ـ روي أن الإمام موسى الكاظم (ع) قال لأصحابه: واللهِ مَا اشْتَرَيْتُ هَذِهِ الْجَارِيَةَ إِلَّا بِأَمْرِ مِنَ اللَّهِ وَوَحْيه.
وسئل عن ذلك، فقال (ع): بَيْنَما أَنا نائِمٌ إِذ أَتاني جَدَي وَأَبِي وَمَعَهُما قِطْعَةُ حَريرٍ، فَنَشَراها، فَإِذا قَمِيصُ فِيهِ صورَةُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ، فقالا: يا موسى، لَيَكونَنَّ لَكَ مِنْ هَذِهِ الْجَارِيَةِ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ بَعْدَكَ، ثُمَّ أَمَرَنِي أَبِي إِذا وُلِدَ لِي وَلَدٌ أَنْ أُسَمِّيهِ عَلِيّاً، وَقَالا: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيُظْهِرُ بِهِ الْعَدْلَ وَالرَّحْمَةَ، طوبى لِمَنْ صَدَّقَهُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ عاداهُ وَجَحَدَهُ[3].
هذه بعض الروايات التي قيلت في كيفية زواج الإمام موسى الكاظم (ع) بهذه السيدة الكريمة، وقد حباها بخالص الحب وأصفاه، وكانت تنعم بالإكبار والتقدير في بيته.
اسمها
أما اسم هذه السيدة الزكية، فقد اختلفت فيه أقوال الرواة، وهذه بعضها:
1ـ تكتم: وذهب كثير من المؤرخين إلى أن اسمها تكتم، وفي ذلك يقول الشاعر في مدحه للإمام الرضا (ع):
أَلَا أَنَّ خَيْرَ النَّاسِ نَفْساً وَوالِداً ** وَرَهْطاً وَأَجْدَاداً عَلِيُّ الْمُعَظَمُ
أَتَتْنَا بِهِ لِلعِلمِ وَالحِلْمِ ثامناً ** إماماً يُؤَدِّي حُجَّةَ اللهِ تُكْتُمُ[4]
وهذا الاسم عربي تُسمى به السيدات من نساء العرب، وفيه يقول الشاعر:
طاف الخيالان فزادا سَقَماً ** خيالُ تُكْنى وَخَيالُ تُكْتَما[5]
2ـ الخيزران[6].
3ـ أروى[7].
4ـ نجمة[8].
5ـ أم البنين[9]، والظاهر أنه كنية لها.
هذه بعض الأقوال التي قيلت في اسمها، وليس في تحقيق ما هو الصحيح منها بذي فائدة على القراء.
تقواها
وكانت هذه السيدة الزكية من العابدات، فقد أقبلت على طاعة الله إقبالاً شديداً، فقد تأثرت بسلوك زوجها الإمام موسى الكاظم (ع) إمام المتقين والمنيبين إلى الله تعالى، وكان من مظاهر عبادتها أنها لما ولدت الإمام الرضا (ع) قالت: أعينوني بمرضعة.
فقيل لها: أنقص الدر؟
قالت: ما أكذب، ما نقص الدر، ولكن عليّ ورد من صلاتي وتسبيحي[10].
أرأيتم هذه النفس الملائكية التي هامت بحب الله تعالى وانقطعت إليه، فقد طلبت أن يعاونوها على إرضاع ولدها لأنه يشغلها عن أورادها من الصلاة والتسبيح.
الوليد العظيم
وأشرقت الأرض بمولد الإمام الرضا (ع)، فقد ولد خير أهل الأرض، وأكثرهم عائدة على الإسلام، وسرت موجات من السرور والفرح عند آل النبي، وقد استقبل الإمام موسى الكاظم (ع) النبأ بهذا المولود المبارك بمزيد من الابتهاج، وسارع إلى السيدة زوجته يهنيها بوليدها قائلاً: هنيئاً لَكِ يَا نَجْمَةُ كَرَامَةٌ لَكِ مِنْ رَبِّكِ.
وأخذ وليده المبارك وقد لف في خرقة بيضاء، وأجرى عليه المراسم الشرعية، فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، ودعا بماء الفرات فحنكه به، ثم رده إلى أمه، وقال لها: خُذيهِ، فَإِنَّهُ بَقِيَّةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ[11].
لقد استقبل سليل النبوة أول صورة في دنيا الوجود، صورة أبيه إمام المتقين، وزعيم الموحدين، وأول صوت قرع سمعه هو: الله أكبر… لا إله إلا الله.
وهذه الكلمات المشرقة هي سر الوجود، وأنشودة المتقين.
وسمى الإمام موسى الكاظم (ع) وليده المبارك باسم جده الإمام أمير المؤمنين علي (ع)، تبركاً وتيمناً بهذا الاسم الذي يرمز لأعظم شخصية خلقت في دنيا الإسلام، والتي تحلت بجميع فضائل الدنيا.
كنيته (ع)
واعتاد أئمة أهل البيت (ع) بتكنية أبنائهم منذ صغرهم، وهذا من محاسن التربية الإسلامية الهادفة إلى ازدهار الشخصية، وإشعار الطفل بأن له مكانة عند أهله، وقد كني الإمام الرضا (ع) بما يلي:
1ـ أبو الحسن
كناه بذلك أبوه الإمام الكاظم (ع)[12]، فقد قال (ع) لعلي بن يقطين: يا علي هذا ابني – وأشار إلى الإمام الرضا (ع) – سَيِّدُ وُلْدِي، وَقَدْ نَحَلْتُهُ كُنْيَتِي[13].
لقد كان الإمام الكاظم (ع) يكنى بأبي الحسن، ولما كانت هذه الكنية مشتركة بينهما قيل للإمام الكاظم أبي الحسن الماضي وللإمام الرضا أبي الحسن الثاني، وذلك للتفرقة بين الكنيتين.
ليس هذا فقط، ففي الروايات يُطلق عليه أبو الحسن، وغالباً إذا جاءت هذه الكنية مجردة فإنها تعود للإمام الكاظم (ع)، إلا ما ندر، وكذلك أبو الحسن الأول، فالمراد به الإمام الكاظم (ع)، ويكنى الإمام الهادي بأبي الحسن الثالث.
2ـ أبو بكر
وهذه الكنية نادرة، ولم يُعرف (ع) بها إلا نادراً، فقد روى أبو الصلت الهروي، قال: سألني المأمون يوماً عن مسألة، فقلت: قال فيها أبو بكر كذا وكذا.
فقال المأمون: من هو أبو بكر؟ أبو بكرنا أو أبو بكر العامة؟
قلت: أبو بكرنا.
قال عيسى: قلت لأبي الصلت: من هو أبو بكركم؟
فقال: علي بن موسى، كان يكنى بها[14].
سنة ولادته (ع)
واختلف المؤرخون اختلافاً كثيراً في السنة التي ولد فيها الإمام الرضا (ع)، وكذلك اختلفوا في الشهر الذي ولد فيه، وهذا بعض ما أثر عنهم:
1ـ إنه (ع) ولد سنة ١٤٧ه[15].
2ـ ولد (ع) سنة ١٤٨ه[16]، وهذا هو المشهور بين الرواة، وهي السنة التي توفي فيها
جده جعفر الصادق (ع).
3ـ ولد (ع) سنة ١٥٠ه.
4ـ ولد (ع) سنة ١٥١ه.
5ـ ولد (ع) سنة ١٥٣ه.
هذه بعض الأقوال في سنة ولادته، وقد اختلف المؤرخون أيضاً في الشهر الذي ولد فيه، وهذه بعض أقوالهم:
1ـ إنه (ع) ولد يوم الخميس أو ليلته لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول[17].
2ـ ولد (ع) في ذي القعدة[18] في الحادي عشر منه، يوم الخميس.
3ـ ولد (ع) في شوال في السابع منه، وقيل: في ثامنه، وقيل: سادسه[19].
هذه بعض الأقوال التي أدلى بها المؤرخون والرواة.
صفته (ع)
وذهب كثير من المؤرخين إلى أن الإمام الرضا (ع) كان أسمر شديد السمرة.
وقيل: إنه كان أبيض معتدل القامة.
وأنه كان شديد الشبه بجده رسول الله (ص)، وكما شابه جده في ملامحه فقد شابهه في مكارم أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيين.
هيبته (ع)
أما هيبة الإمام الرضا (ع)، فكانت تعنو له الجباه، فقد بدت عليه هيبة الأنبياء والأوصياء الذين كساهم الله بنوره، وما رآه أحد إلا هابه، وكان من هيبته أنه إذا جلس للناس أو ركب لم يقدر أحد أن يرفع صوته من عظيم هيبته[20].
ويقول الرواة: إنه إذا جاء إلى المأمون بادره الحجاب والخدم بين يديه، ورفعوا له الستر، ولما بلغهم أن المأمون يريد أن يبايع له بولاية العهد تواصوا على أنه إذا جاء لا يصنعون له الحفاوة والتكريم الذي كانوا يصنعونه.
وجاء الإمام الرضا (ع) على عادته، فأخذتهم هيبته، وبادروا إلى تكريمه كما كانوا يصنعون، وتلاوموا فيما بينهم، وأقسموا أنه إذا عاد لا يقابلوه بذلك التكريم، ولما جاء (ع) في اليوم الثاني قاموا إليه وسلموا عليه، إلا أنهم لم يرفعوا له الستر، فجاءت ريح فرفعته كعادته، ولما أراد الخروج أيضاً رفعت الريح الستر.
فقال بعضهم لبعض: إن لهذا الرجل شأناً، والله به عناية، ارجعوا إلى خدمتكم.
إن لأئمة أهل البيت (ع) شأناً ومكانة عند الله تعالى، فهو يؤيدهم ويسددهم بما يسدد به أنبياءه ورسله.
نقش خاتمه (ع)
أما النقش على الخاتم وما رسم عليه من كلمات، فإنه – على الأكثر – يمثل اتجاهات الشخص وميوله، وقد وسم على خاتم الإمام الرضا (ع) ما يلي: ولي الله[21].
وله خاتم آخر قد نقش عليه: العزة لله.
وهذه النقوش تمثل مدى انقطاعه إلى الله تعالى، وتمسكه به.
نشأته (ع)
نشأ الإمام الرضا (ع) في بيت من أجل البيوت وأرفعها في الإسلام. إنه بيت الإمامة، ومركز الوحي، ذلك البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه، في هذا البيت العريق ترعرع الإمام الرضا (ع) ونشأ، وقد سادت فيه أرقى وأسمى ألوان التربية الإسلامية الرفيعة، فكان الصغير يحترم ويبجل الكبير، والكبير يعطف على الصغير، كما سادت فيه الآداب الرفيعة، والأخلاق الكريمة، ولا تسمع فيه إلا تلاوة كتاب الله، والحث على العمل الصالح وما يقرب الإنسان من ربه.
وقد أكد علماء التربية على أن البيت من أهم العوامل في تكوين الشخص، وبناء سلوكه، فإن كان البيت تسوده المحبة والألفة، والعادات الرفيعة، والتقاليد الحسنة، ويجتنب فيه هجر الكلام ومره، فإنّ الطفل ينشأ نشأة سليمة وبعيدة عن التعقيد، وازدواج الشخصية، وإن كان البيت مصاباً بالانحراف والشذوذ، وتنتشر فيه البغضاء والكراهية، فإنّ الطفل حتماً يمنى بالتعقيد والجنوح والانحراف.
أما البيت الذي نشأ فيه الإمام الرضا (ع) فهو من أعز البيوت وأمنعها في دنيا الإسلام، فقد كان مركزاً من مراكز الفضيلة، ومنبعاً للأخلاق الكريمة، وقد أنجب خيرة البشر وأئمة الحق والعدل في الإسلام، ويضاف إلى البيت في تكوين الشخص البيئة التي نشأ فيها الشخص، وكانت البيئة التي عاش فيها الإمام الرضا (ع) تضم خيرة الرجال، وخيره العلماء الذين ينتهلون من نمير علوم أبيه الإمام الكاظم (ع).
إن جميع عوامل التربية الرفيعة ومكوناتها الفكرية توفرت للإمام الرضا (ع)، فنشأ في إطارها كما نشأ آباؤه العظام الذين هم من ذخائر الإسلام.
الملاحم والأحداث
وأخبر الإمام الرضا (ع) عن كثير من الملاحم والأحداث قبل وقوعها، وتحققت بعد ذلك على الوجه الأكمل الذي أخبر به، وهي تؤكد – بصورة واضحة – أصالة ما تذهب إليه الشيعة من أن الله تعالى قد منح أئمة أهل البيت (ع) المزيد من الفضل والعلم كما منح رسله، ومن بين ما أخبر به ما يلي:
1ـ روى الحسن بن بشار، قال: قال الإمام الرضا (ع): إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ – يعني المأمون – يَقْتُلُ مُحَمَّداً – يعني الأمين.
فقلت له: عبد الله بن هارون يقتل محمد بن هارون؟!
قال: نَعَمْ، عَبْدُ اللَّهِ الَّذِي بِخُراسانَ يَقْتُلُ مُحَمَّدَ بْنَ زُبَيْدَةَ الَّذِي هُوَ بِبَغْدَادَ، وكان يتمثل بهذا البيت:
وَإِنَّ الضغْنَ بَعدَ الضغْنِ يَفْشو ** عَلَيْكَ وَيُخْرِجُ الدَّاءَ الدَّفينا[22]
ولم تمض الأيام حتى قتل المأمون أخاه الأمين.
2ـ ومن بين الأحداث التي أخبر عنها: إنه لما خرج محمد ابن الإمام الصادق (ع) بمكة، ودعا الناس إلى نفسه، وخلع بيعة المأمون، قصده الإمام الرضا (ع)، وقال له: يا عَمِّ، لَا تُكَذِّبْ أَباكَ وَلَا أَخاك – يعني الإمام الكاظم (ع) – فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَتِمُّ، ثم خرج.
ولم يلبث محمد إلا قليلاً حتى لاحقته جيوش المأمون بقيادة الجلودي، فانهزم محمد ومن معه وطلب الأمان، فأمنه الجلودي، وصعد المنبر وخلع نفسه، وقال: إن هذا الأمر للمأمون وليس لي فيه حق[23].
3ـ روى الحسين نجل الإمام الكاظم (ع)، قال: كنا حول أبي الحسن الرضا ونحن شبان من بني هاشم؛ إذ مر علينا جعفر بن عمر العلوي وهو رث الهيئة، فنظر بعضنا إلى بعض وضحكنا من هيئته.
فقال الإمام الرضا (ع): لَتَرَوُنَّهُ عَنْ قَرِيبٍ كَثِيرَ الْمَالِ، كَثيرَ التَّبع، فما مضى إلا شهر ونحوه حتى ولي المدينة وحسنت حاله[24].
4ـ روى محول السجستاني، قال: لما جاء البريد بإشخاص الإمام الرضا (ع) إلى خراسان كنت أنا بالمدينة، فدخل المسجد ليودع رسول الله (ص)، فودعه مراراً، كل ذلك يرجع إلى القبر، ويعلو صوته بالبكاء والنحيب، فتقدمت إليه، وسلمت عليه، فرد السلام، وهنأته، فقال: ذَرْنِي، فَإِنِّي أَخْرُجُ مِنْ جِوارِ جَدَي، فَأَمُوتُ في غُرْبَةٍ، وَادْفَنُ فِي جَنْبِ هَارُونَ.
قال: فخرجت متبعاً طريقه، حتى وافى خراسان فأقام فيها وقتاً، ثم دفن بجنب هارون[25].
وتحقق ما أخبر به، فقد مضى إلى خراسان، ولم يعد منها، واغتاله المأمون العباسي ودفن إلى جنب هارون.
5ـ روى صفوان بن يحيى، قال: لما مضى أبو إبراهيم – يعني الإمام الكاظم (ع) – وتكلم أبو الحسن الرضا (ع) خفنا عليه، فقيل له: إنك قد أظهرت أمراً عظيماً، وإنا نخاف عليك هذا الطاغية – يعني هارون.
فقال الإمام (ع): لِيَجْهَدْ جُهْدَهُ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيَّ[26].
وتحقق ذلك، فإن هارون لم يعرض له بسوء، وقد أكد الإمام الرضا (ع) هذا المعنى لبعض أصحابه، فقد روى محمد بن سنان، قال: قلت لأبي الحسن الرضا في أيام هارون: إنك قد شهرت نفسك بهذا الأمر، وجلست مجلس أبيك، وسيف هارون يقطر الدم أي من دماء أهل البيت وشيعتهم.
فقال (ع): جَرَّأَنِي عَلى هذا ما قالَ رَسُولُ اللهِ (ص): إِنْ أَخَذَ أَبُو جَهْلٍ مِنْ رَأْسِي شَعْرَةً، فَاشْهَدُوا أَنِّي لَسْتُ بِنَبِيٍّ، وَأَنَا أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ أَخَذَ هارُونُ مِنْ رَأْسِي شَعْرَةً فَاشْهَدُوا أَنِّي لَسْتُ بِإِمام[27].
لقد أعلن الإمام (ع) غير مرة أن هارون لا يعرض له بسوء، وأنه يدفن إلى جانب هارون، فقد روى حمزة بن جعفر الأرجاني: خرج هارون من المسجد الحرام من باب، وخرج علي الرضا من باب، فقال (ع): يا بُعْدَ الدَّارِ وَقُرْبَ الْمُلْتَقَى، إِنَّ طُوسَ سَتَجْمَعُنِي وَإِيَّاهُ[28].
وأكد الإمام دفنه بالقرب من هارون في كثير من الأحاديث، فقد روى موسى بن هارون، قال: رأيت علياً الرضا في مسجد المدينة وهارون الرشيد يخطب، قال: تَروني وَإِيَّاهُ نُدْفَنُ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ[29].
6ـ ومن بين الأحداث التي أخبر عنها أنه أخبر عن نكبة البرامكة، فقد روى مسافر، قال: كنت مع أبي الحسن علي الرضا، فمر يحيى بن خالد البرمكي وهو مغط وجهه بمنديل من الغبار، فقال له: مساكين هؤلاء، ما يَدْرُونَ مَا يَحِلُّ بِهِمْ في هَذِهِ السَّنَةِ.
وأضاف الإمام (ع) قائلاً: وَأَعْجَبُ مِنْ هذا أَنا وَهارونُ كَهَاتَيْنِ، وختم إصبعيه السبابة والوسطى.
قال مسافر: فوالله ما عرفت معنى حديثه في هارون إلا بعد موت الرضا، ودفنه بجانبه[30].
وذكر الرواة بوادر كثيرة من الملاحم والأحداث التي أخبر عنها قبل وقوعها، وهي تدلل على ما منحه الله من العلم بمجريات الأحداث الذي خص به أولياءه وعباده الصالحين.
الاستنتاج
أن والد الإمام الرضا (ع)، الإمام الكاظم (ع)، يعتبر من أبرز أئمة أهل البيت (ع)، بينما كانت والدته سيدة فاضلة تتسم بخصال الشرف والعفة، وقد اختلف الرواة في اسمها، لكنهم اتفقوا على تقواها وعبادتها، وعند ولادتها، سرت موجات من الفرح والسرور في الأرجاء، حيث أجرى والده المراسيم الشرعية على وليده ولقبه بعدة كنى، كما اختلف المؤرخون في تحديد سنة وشهر ولادته، وتناولوا صفاته الجسدية وهيبته التي كانت تثير إعجاب الناس، وقد أُشير أيضا إلى نقش خاتمه الذي يعكس انقطاعه إلى الله، وسلطت الأضواء على نشأته في بيت الإمامة، وأهمية التربية في تشكيل شخصيته، وأخيرا، أشاروا إلى الملاحم والأحداث التي تنبأ بها الإمام الرضا (ع)، مما يعكس علمه وفضله، ويؤكد مكانته كإمام من أئمة أهل البيت (ع).
الهوامش
[1] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج1، ص14.
[2] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج1، ص17.
[3] الطبري، دلائل الإمامة، ص٣٤٩، ح٣٠٣.
[4] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج1، ص15.
[5] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج2، ص25، ح٢.
[6] ابن الجوزي، تذكرة الخواص، ص٣٦١.
[7] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج٢، ص٢٥، ح٢.
[8] الأربلي، كشف الغمة، ج3، ص102.
[9] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج٢، ص٢٥، ح٢.
[10] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج٢، ص٢٤، ح٢.
[11] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج1، ص18.
[12] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج2، ص31، ح2.
[13] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج٢، ص٣١، ح2.
[14] الإصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص٥٦١.
[15] الشبلنجي، نور الأبصار، ص138.
[16] المفيد، الإرشاد، ج٢، ص٢٤٨.
[17] الأربلي، كشف الغمة، ج3، ص87.
[18] الأمين، أعيان الشيعة، ج٤، ص٧٧.
[19] اليافعي، مرآة الجنان، ج2، ص12.
[20] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج2، ص179.
[21] المجلسي، بحار الأنوار، ج49، ص7، ح١٠.
[22] ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، ج٤، ص٣٣٥.
[23] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج1، ص224، ح8.
[24] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج١، ص٢٢٥، ح۱۱.
[25] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج١، ص٢٣٤، ح٢٦.
[26] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج1، ص246، ح٤.
[27] الكليني، الكافي، ج٨، ص٢٥٧، ح٣٧١.
[28] ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، ج٤، ص٣٤٠.
[29] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج١، ص٢٤٧، ح١.
[30] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج1، ص245، ح٢.
مصادر البحث
1ـ ابن الجوزي، يوسف، تذكرة الخواص، قم، انتشارات الشريف الرضي، الطبعة الأُولى، 1418 ه.
2ـ ابن شهرآشوب، محمّد، مناقب آل أبي طالب، النجف، المكتبة الحيدرية، طبعة 1376 ه.
3ـ الأربلي، علي، كشف الغمة في معرفة الأئمّة، قم، انتشارات الشريف الرضي، الطبعة الأُولى، 1421 ه.
4ـ الإصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين، قم، مؤسّسة دار الكتاب، الطبعة الثانية، 1385 ه.
5ـ الأمين، محسن، أعيان الشيعة، تحقيق حسن الأمين، بيروت، دار التعارف، بلا تاريخ.
6ـ الشبلنجي، مؤمن، نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار (ص)، قم، منشورات الشريف الرضي، الطبعة الأُولى، 1380 ه.
7ـ الصدوق، محمّد، عيون أخبار الرضا (ع)، تصحيح وتعليق حسين الأعلمي، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، طبعة 1404 ه.
8ـ الطبري، دلائل الإمامة، محمّد، قم، مؤسّسة البعثة، الطبعة الأُولى، 1413 ه.
9ـ الكليني، محمّد، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.
10ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه.
11ـ المفيد، محمّد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، قم، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، الطبعة الأُولى، 1413 ه.
12ـ اليافعي، عبد الله، مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1417 ه.
مصدر المقالة (مع تصرف)
القرشي، باقر، موسوعة سيرة أهل البيت (ع)، تحقيق مهدي باقر القرشي، النجف، دار المعروف، الطبعة الثانية، 1433 ه، ج30، ص23 ـ ص55.