- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 11 دقیقة
- بواسطة : المشرف
- 0 تعليق
ما معنى الاجتهاد عند الشيعة؟ وهل وجوبه كفائي أو عيني؟ وهل يجوز للمجتهد أن يقلد أو لا يجوز؟ وهل تعتبر الأعلمية في المقلَّد أم لا تعتبر؟ وهل يشترط الرجوع الى الأعلم حتى في حالة العلم بالخلاف بينه وبين غيره أو لا؟ وما هي الأدلة على وجوب الرجوع الى الأعلم، بحوث نتطرق إليها إن شاء الله تعالى.
معنى الاجتهاد والتقليد
إنّ الاجتهاد، إذا فسّرناه بعملية استفراغ الوسع لاستنباط الأحكام الشرعية، أو الوظائف العملية (شرعية أو عقلية) من أدلّتها التفصيلية، أو أنه عملية إرجاع الفروع الى الاُصول المعتمدة شرعاً، أو ما يقرب من هذه المعاني، دونما نظر الى الاجتهاد بمعنى العمل بالآراء الظنيّة غير المعتبرة، إذا فسّرناه بذلك فإنّا لا تجدنا بحاجة الى الحديث مفصّلاً عن لزومه ـ باستمرار ـ بعد وضوح قيام الشريعة بوضعه، إنسجاماً مع خلودها.
والاجتهاد واجب كفائيّ ـ بلا ريب ـ حفاظاً على أحكام الإسلام من الإندراس والضياع، حيث حثّت الشريعة على تحصيل العلوم الشرعية، قال تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[1].
والآية واضحة في الوجوب الكفائي للاجتهاد، دون العيني منه ـ وهو ما نُسب الى علماء حلب ـ بالإضافة الى ما في الواجب العيني من عسر عظيم، وكذلك قيام السيرة في الرجوع الى فتوى الأصحاب والرواة.
أمّا التقليد فجوازه لغير المجتهدين يكاد يكون بديهة، حتى عبر صاحب «كفاية الاُصول» أنّها حالة فطرية جبلّية[2]. وقد قامت عليه السيرة العقلائية. وهذه هي حالة المجتمعات في صدر الإسلام، ممّا يحقّق الإمضاء الشرعي لهذه الحالة، وهناك أدلّة من النصوص القرآنية والنبوية على ذلك.
عدم جواز رجوع المجتهد الى رأي غيره
وإذا حصل الباحث على رتبة الاجتهاد، لم يجز له الرجوع الى غيره، وذلك لما أفاد الشيخ الأنصاري في رسالته الموضوعة في الاجتهاد والتقليد، من دعوى الاتفاق على عدم الجواز، لإنصراف الإطلاقات الدالّة على جواز التقليد عمّن له ملكة الاجتهاد واختصاصها بمن لا يتمكّن من تحصيلها.
ويقول السيّد الخوئي معلّقاً على كلام الشيخ مرتضى الأنصاري: «وما أفاده هو الصحيح، وذلك لأنّ الأحكام الواقعية قد تنجّزت على من له ملكة الاجتهاد بالعلم الإجمالي، أو بقيام الحجج والامارات عليها في محلّها.
وهو يتمكن من تحصيلها بتلك الطرق، إذاً لا بدّ له من الخروج من عهدة التكاليف المتنجّزة في حقّه، ولا يكفي في ذلك أن يقلّد الغير، إذ لا يترتّب عليه الجزم بالإمتثال»[3].
والظاهر أنّ بناء العقلاء في مجال رجوع الجاهل الى العالم يشمل حالة المجتهد الذي يمنعه مانع من الاستنباط، كضيق الوقت وغيره ويتجلّى هذا بشكل أكثر وضوحاً فيما لو افترضنا وجود مساحة كبرى لم يستطع استنباطها بعد.
اعتبار الأعلمية في المقلَّد
والمراد بالأعلمية هو أن يكون صاحبها أقوى ملكة من غيره في مجالات الاستنباط، وليس المعيار كثرة الاستنباط أو قلّته، وربّما توسّع البعض في هذه المَلكة فجعلها تعني القدرة على استنباط الموقف الإسلامي من كلّ القضايا الحياتية، وهذا الشرط هو المشهور بين علماء الشيعة وخصوصاً في العصور الأخيرة، وهو مذهب أحمد وابن سريج والقفّال من أصحاب الشافعي وجماعة من الاُصوليين، وقد اختاره الغزالي[4]، كما نُقل عن محمّد بن الحسن، وقد ذهب جماعة من علماء الإمامية ممّن تأخّر عن الشهيد الثاني على عدم الاشتراط[5].
وليس لنا في هذا المجال إلاّ الإشارة الى بعض الأدلّة الواردة في المقام، ويترك البحث المفصل الى محلّه.
وقد استدلّ لعدم اشتراط الرجوع الى الأعلم حتى في حالة العلم بالخلاف بينه وبين غيره، بوجوه:
منها: التمسّك بإطلاق الأدلة الواردة في جواز الرجوع الى الفقيه، كإطلاق آيات النفر والسؤال والكتمان والروايات، بل قد يقال: إنّ الغالب فيمن كان الناس يرجعون إليهم عدم الأعلمية مع العلم باختلاف الفتاوى، بل شكّل هذا سيرة عامة عبر القرون، منذ صدر الإسلام لدى المسلمين جميعاً، وليس هناك نهي عن هذه السيرة التي يمكن أن تعتبر دليلاً مستقلاً. وتشهد مشهورة أبي خديجة على جواز الرجوع الى من يعلم شيئاً من قضاياهم (ع)[6].
وروايات الإرجاع كثيرة رغم اختلاف الذين تمّ الإرجاع إليهم في مستوى العلم.
ومنها: إنّ هذا الأمر متعسّر جداً إذا توسّعنا في تفسير الأعلم، فجعلناه يشمل الأعلم بكلّ التصورّات الإسلامية والأحكام وموضوعاتها في كلّ القضايا الحياتية.
وقد أثبتت العصور عسر هذا الأمر، ولذا انتقلت الحوزات الى الأصلح تقريباً.
ومنها: بناء العقلاء على الرجوع للعالم وعدم اشتراطهم الأعلمية.
ومنها: تطابق الصحابة وإجماعهم على ذلك.
وقد نوقش في هذه الأدلّة:
أمّا الأوّل: فلأنّ محلّ الكلام هو ما لو علم بالمخالفة بين العالم والأعلم، فروايات الإرجاع مثلاً ـ كما يقول الشيخ الأنصاري ـ : «محمولة على صورة عدم العلم بالاختلاف بل اعتقاد الاتّفاق»[7].
ونحن لا نعلم أنّ الرجوع كان في هذه الصورة لتكون الروايات نصّاً في ذلك، فلا يبقى إلاّ الإطلاق، والإطلاق لا يشمل المتعارضين، لأنّ شموله لهما يستلزم الجمع بين الضدّين أو النقيضين. ولا مجال للقول بالتخيير، باعتبار أنّ رفع اليد عن إطلاق الدليلين المتعارضين أولى من رفع اليد عن أصليهما، وذلك أنّ الدليلين هنا ـ كما يقول السيّد الخوئي ـ ليس لهما نصّ ظاهر، بل دلالتهما بالظهور والإطلاق، فلا مناص من الحكم بتساقطهما، بعد أن لم يمكن الجمع العرفي بينهما.
وقد نوقشت الأدلة الباقية بإنكارها.
الاستدلال لوجوب الرجوع الى الأعلم
وقد استدلّ لوجوب الرجوع الى الأعلم بأدلّة، منها:
الدليل الأول على وجوب الرجوع الى الأعلم
إنّ مشروعية التقليد إنّما تمّ إثباتها بالكتاب والسنّة، أو بالسيرة. أما المطلقات الشرعية فهي لا تشمل المتعارضين (وهو موردنا، إذ نتحدث في حالة ما إذا علمنا بالتنافي بين فتوى العالم وفتوى الأعلم).
وأمّا السيرة العقلائية فهي تجري على الرجوع الى الأعلم عند العلم بالمخالفة، وهي ممضاة، وإذا سقطت فتوى غير الأعلم عن الحجّية تعين الرجوع الى الأعلم، بعد أن علمنا بعدم وجوب الاحتياط، لأنّه غير ميسور. وقد اعتمد المرحوم السيّد الخوئي هذا الوجه وحده على الظاهر.
وربّما يناقش في هذا الاستدلال بما سنذكره عند طرح مسألة التبعيض، من أنّه يمكن تصوّر شمول الإطلاقات للفتويين المتعارضتين. على أننا لا نعلم بوجود سيرة عقلائية ممضاة في هذا المجال، بعد أن وجدنا العقلاء يرجعون الى المتخصّصين، خصوصاً المتقاربين منهم، مع علمهم إجمالاً بوجود تخالف بينهم وبين من هم أشد منهم تخصّصاً، لاعتبارات منها موضوع التسهيل من جهة والإحتمال العقلائي بمطابقة الواقع، وإن كانوا يرجّحون ذلك.
وبتعبير آخر، ليس هناك علم بالإلزام العقلائي بالرجوع الى الأعلم مع كون الطرف الآخر حائزاً للشروط المطلوبة[8].
ونحن نتحدّث في مجال تشريعيّ، علم فيه أنّ الاجتهاد هو طريق شرعي مقبول، وهو متوافر في كليهما حسب الفرض، فلا معنى لتشبيه المورد بمجالات التردّد الفردي بين المتخصّصين في الاُمور الخطيرة، كما نراه عادة في كتابات العلماء.
على أننا لا نعلم بالإمضاء الشرعي، وخصوصاً إذا لاحظنا هذه السيرة المتشرّعية العامّة في الرجوع الى الصحابة، أيٍّ منهم، أو الرجوع الى العلماء من أتباع الأئمة (ع) دونما نكير ودونما منع معتبر.
من مثل هذه الظاهرة المتّسعة في عرض الزمان وطوله، بل كان الأئمة (ع) يُرجِعون الى العلماء دونما اشتراط للأعلمية.
يقول الحرّ العاملي ـ وهو إخباري ـ في معرض ردّه على الاُصوليين: «إنّه ـ أي القول بالتقليد ـ يستلزم وجوب معرفة المقلِّد، بأن الذي يقلّده مجتهد مطلق ولا سبيل له الى ذلك كما لا يخفى، فيلزم تكليفه بما لا يطيق، وكذلك تكليفه بمعرفة الأعلم بين المجتهدين مع التعدد»[9].
ويقول الفاضل التوني في الوافية: «التقليد، وهو قبول قول من يجوز عليه الخطأ، من غير حجّة ولا دليل، ويعتبر في المفتي الذي يستفتى منه ـ بعد الشرائط المذكورة ـ على النحو المذكور وأن يكون مؤمناً ثقة ولم يتعرض مطلقاً لشرط الأعلمية[10].
الدليل الثاني على وجوب الرجوع الى الأعلم
ممّا استدلّوا به على وجوب الرجوع الى الأعلم دليل الإجماع، وهذا الاستدلال باطل على أيّ نحو فسّرنا الإجماع، فسواء أردنا به اتفاق الآراء، أو أردنا به الاتفاق الكاشف عن رأي المعصوم، فإنّه هنا غير تام، بعد وضوح عدم اتفاق الآراء فيه، بل ربّما يدّعي الاتفاق على عدمه في بعض العصور وكذلك وضوح عدم كشفه عن رأي المعصوم.
الدليل الثالث على وجوب الرجوع الى الأعلم
بعض الروايات:
منها: مقبولة عمر بن حنظلة[11] الدالّة على تقديم حكم الأفقه، ولكنّها واردة في مقام القضاء لا الفتوى.
ومنها: ما جاء في عهد الإمام عليّ (ع) لمالك الأشتر: «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك»[12]. وهي أيضاً في باب القضاء.
ومنها: ما في كتاب الاختصاص من قوله (ع): «إنّ الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها، فمن دعا الناس الى نفسه وفيهم من هو أعلم منه، لم ينظر الله إليه يوم القيامة»[13].
ولكنها مرسلة، بالإضافة الى أنها تتحدث عن مجال الولاية والحكومة.
ومنها: ما جاء عن الإمام محمّد الجواد (ع) من قوله لعمّه: «يا عمّ، أنّه لعظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه، فيقول لك: لِمَ تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الاُمّة من هو أعلم منك؟»[14]، وهي مرسلة لا يحتجّ بها، بالإضافة الى تركيزها على عدم علم المفتي.
الدليل الرابع على وجوب الرجوع الى الأعلم
إنّ فتوى الأعلم أقرب الى الواقع فلا مناص من الأخذ بها. وأجاب عنها السيد الخوئي: بأنّ الأقدمية إن اُريد منها أنّ فتواه بالفعل أقرب فهذا لا نسلّمه، وإن اُريد أنّ من شأن فتاواه أن تكون أقرب قلنا إنّ الأقربية الطبعية لم تجعل ملاكاً للتقليد و لوجوبه.
الدليل الخامس على وجوب الرجوع الى الأعلم
هو الرجوع الى الأصل العقلي في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير ـ بين الأعلم وغيره ـ ولكن بعد أن تمّ لدينا الدليل الاجتهادي (السيرة)، فإنّه ليس هناك مجال للرجوع الى الأصل العقلي في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير، باعتبار ما له من رتبة متأخرة.
والغريب أنّ البعض من العلماء رجعوا إليه مباشرة وقبل مناقشة أي من الأدلة الاجتهادية المدّعاة، على أنّ في كون إنتاج هذا الأصل هو التعيين ـ للأعلم مثلاً ـ كلاماً لا مجال للتفصيل فيه[15].
حكم التبعيض والتلفيق
ونقصد بالتلفيق عدم التقيّد بفتوى مجتهد واحد والرجوع في مقام العمل الى فتوى أكثر من واحد، سواء كان ذلك في العمل المركّب الارتباطي، أو في الأعمال المستقلّة بعضها عن البعض الآخر.
وقد عبّر عن عملية التلفيق في كتب الفقه الإمامي «بالتبعيض»، وهو ما أرجّحه باعتبار ما في مصطلح التلفيق من ايحاءات سلبية.
يقول المرحوم اليزدي في العروة الوثقى المسألة (33): (إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمقلِّد تقليد أيّهما شاء، ويجوز التبعيض في المسائل).
يقول في المسألة (65): (في صورة تساوي المجتهدين يتخيّر بين تقليد أيّهما شاء، كما يجوز له التبعيض حتى في أحكام العمل الواحد، حتى أنه لو كان ـ مثلاً ـ فتوى أحدهما وجوب جلسة الاستراحة واستحباب التثليث في التسبيحات الأربع وفتوى الآخر بالعكس يجوز أن يقلد الأوّل في استحباب التثليث، والثاني في استحباب الجلسة).
ويقول الإمام الخميني (قده): «إذا كان المجتهدان متساويين في العلم يتخيّر العامي في الرجوع الى أيّهما، كما يجوز له التبعيض في المسائل، يأخذ بعضها من أحدهما وبعضها من الآخر»[16].
الآراء في المسألة وتاريخها
رأي السيّد الحكيم
يقول الإمام الحكيم في مستمسكه في ذيل المسألة (33) من مسائل (العروة الوثقى) ما يلي: (قد عرفت أنه مع اختلاف المجتهدين في الفتوى تسقط إطلاقات أدلة الحجّية عن المرجعية، وينحصر المرجع بالإجماع، فمشروعية التبعيض تتوقف على عموم الإجماع على التخيير بينهما لصورة التبعيض، ولم يتّضح عموم الإجماع، ولم أقف عاجلاً على من ادّعاه، بل يظهر من بعض أدلة المانعين عن العدول في غير المسألة ـ التي قد قلّد فيها ـ المنع عن التبعيض، فراجع كلماتهم، ومثلها: دعوى السيرة عليه في عصر المعصومين (ع) فالتبيعض، إذاً لا يخلو من إشكال.
نعم، بناءً على كون التقليد هو الإلتزام بالعمل بقول مجتهد معين لا مانع من التبعيض لإطلاق أدلة الحجّية)[17].
وقد وضّح هذا في موضع آخر، فقال ما ملخّصه: إنّ التقليد هو العمل اعتماداً على رأي الغير، فإنّ اتّفق المجتهدون أمكن تقليدهم جميعاً، ولا يشترط التعيين. وإن اختلفوا امتنع أن يكون الجميع حجّة للتكاذب الموجب للتناقض، ولا واحد معين; لأنّه بلا مرجّح، ولا التساقط; لأنّه خلاف الإجماع والسيرة، فالحجّة ما يختاره وهو الإلتزام، فالإلتزام مقدمة للتقليد لا عينه[18].
وذكر في ذيل المسألة (65) من (العروة الوثقى): أنه قد يشكل في العمل الواحد الارتباطي الذي تمّ العمل فيه بفتويين، فهو أمر تخالفه الفتويان معاً. وأجاب إنّنا بعد البناء على جواز التبعيض لا تقدح مخالفة كلّ مجتهد على حدّة في غير مورد التقليد لهم.
وأضاف: (فإن قلت: المجتهد المفتي بعدم وجوب جلسة الاستراحة إنّما يفتي بذلك في الصلاة المشتملة على التسبيحات الثلاث، كما أنّ المفتي بالاقتصار على تسبيحة واحدة إنّما يفتي بذلك فيما اشتمل على جلسة الاستراحة، فترك جلسة الاستراحة والاقتصار على تسبيحة واحدة ليس عملاً بفتوى المجتهدين ولو على نحو الإنضمام.
قلت: الارتباط بين الأجزاء في الثبوت والسقوط لا يلازم الارتباط بينهما في الفتوى).
فالسيّد محسن الحكيم لا يجد هذا إشكالاً، وإنّما الإشكال في نظره هو: سقوط الأدلّة عن شمول الفتويين للمتعارضين من المجتهدين المتساويين، ولا إجماع أو سيرة تشملهما فتمنحهما الحجّية. وهذا المعنى يمكن إسراؤه الى حالة مالو أفتينا بعدم اشتراط الأعلمية في التقليد وتعارضت فتويا العالِمين. إلاّ إنّنا حتى لو قبلنا مبناه في أنّ التقليد هو العمل وليس الإلزام بالعمل أمكننا أن نقول بشمول الأدلة لحالتي التعارض بين الفتويين، من باب ما أشرنا إليه من السيرة الجارية في كلّ العصور الاُولى على الرجوع الى المجتهدين والإرجاع إليهم، وطبيعي أن ذلك كان يتمّ مع العلم بالمخالفة بينهم، الأمر الذي يقرّر الشمول لهذا المورد أيضاً.
رأي السيّد الخوئي
يرى السيّد (ره) أنّ التقليد هو الإستناد الى رأي الغير في مقام العمل، مستنداً في ذلك الى أنه الذي تؤكّده اللغة وما يتبادر من الأخبار[19].
وعندما يعالج (ره) المتساويين المختلفين في الفتوى وموضع شمول أدلة الحجّية لكلتا الفتويين يؤكد أن التخيير بينهما ـ رغم أنه المعروف بين الأصحاب ـ مرفوض. فالإطلاقات لا يمكنها أن تشمل المتعارضين، والسيرة العقلائية الجارية على التخيير بينهما غير ثابتة، بل العقلاء يعتمدون الاحتياط، وسيرة المتشرعة لم يحرز كونها متّصلة بزمان الشارع، والإجماع منقول بخبر الواحد، ولا يمكننا الاعتماد عليه من جهة، ومن جهة اُخرى فانّها مسألة مستحدثة لم يتعرض لها الفقهاء في كلماتهم.
هذا وقد قلنا بإمكان ادّعاء السيرة المتشرعية، بل القطع بها لمن يلاحظ هذه الحالة الشائعة في كل العصور، وخصوصاً في عصر صدر الإسلام. على أنه من الممكن أن نتصور شمول أدلة الحجّة للفتويين المتعارضين لا من اعتبار المكلف عالماً بمضمون الفتويين معاً ليلزم منه الجمع بين الضدّين، أو النقيضين، بل من باب الجامع بين الفتويين، ولا مانع من تعلّق الشوق المولوي بأحد فردين يحقّق كل منهما غرضه، أو يقال: إنّ مصلحة التسهيل على المكلفين بإرجاعهم الى المجتهدين ـ على الرغم من العلم باختلافهم ـ تولد شوقاً إجمالياً لعمل المكلفين بإحدى الفتاوى التي تمّت من خلال عملية مشروعة، ولا نجد في هذا ضيراً ومخالفة لأي أمر عقلي.
فقد توجد الدولة ـ مثلاً ـ مراكز متنوعة لتصدير الأوامر، وهي تعلم أن اجتهادات هذه المراكز تختلف في تفسيرها للقوانين واكتشاف مرادات الحاكم، إلاّ أنها تتغاضى عن ما يحدث نتيجة ذلك من مخالفات غير مقصودة تحقيقاً للمصلحة العليا، وهي تطبيق قوانينها الى أقصى حد ممكن، ولكي يتوضّح هذا الأمر لنلاحظ إمكان أن يصرح الحاكم بهذا الموضوع، دونما إحساس بأي نقص أو مشكلة في تقبّل ذلك.
أما لغة الاحتياط فقد لا نجد لها مجالاً في كثير من الأحوال القانونية العامة، خصوصاً إذا لاحظنا الأمر على الصعيد البشري العام.
وقد أشار السيّد الخوئي في نهاية بحثه هنا الى: أنّنا نتصوّر جعل الحجّية لكلّ منهما مشروطاً بالأخذ به، وهو أمر معقول ثبوتاً، إلاّ أنه ناقش فيه إثباتاً بأنّ الأدلة جعلت الحجّية لفتوى الفقيه دون تقييد بعنصر الإلتزام بها.
وهنا نقول بإمكان أن يدّعي أحد بأنه رغم عدم التقييد بالإلتزام في الموارد العادية، فقد يمكن أن يدّعي أن الفهم العرفي الذي يواجه حالة التخالف بين الموردين يلجأ الى هذا التقييد.
ويتوضّح هذا الفهم العرفي عندما نلاحظ ما جاء في الأخبار الدالة على التوسعة في الخبرين المعارضين، وأنّ المكلف له أن يأخذ بأيّهما شاء من باب التسليم طبعاً إذا تغاضينا عن ما في سندها وعمّمنا دلالتها لغير الروايتين المتعارضتين، بل حتى لو نعمّم ولو تتمّ أسنادها فإنّها تكشف عن حالة عرفية في الفهم.
وعلى أيّ حال، فقد يقال: إنّ القائلين بأنّ التقليد هو الإلتزام لا يواجهون هذه المشكلة، وفيهم من أمثال صاحب الكفاية وصاحب العروة حيث يقول: (التقليد: هو الإلتزام بالعمل بقول مجتهد معين وإن لم يعمل بعد).
إلاّ أنه قد يقال هنا: إنّ الملحوظ في البين هو الطريقية حتى على رأي هؤلاء، وليس المراد أخذ الإلتزام بنفسه موضوعاً حتى يمكن أن تشمله الإطلاقات.
ثمّ إنّه على رأي غالب علماء المذاهب الأربعة لابدّ من الصيرورة الى جواز التلفيق أو التبعيض، بعد أن لم يشترطوا الأعلمية من جهة، وبعد أن اعتبروا أنها جميعاً موصلة الى الحقّ ولم نعثر على حجّة قوية للقائلين برفض التبعيض.
ثمّ إنّ السيّد الخوئي في هذا البحث فرّق بين حالتين: حالة عدم العلم باختلاف الفتويين، وحالة العلم بالاختلاف في مجال العلم بهما في عمل مركب واحد ارتباطي، فأجازها في الاُولى ولم يجزها في الثانية، حتى على تقدير التعميم في الدليل باعتبار أنّ صحة الأجزاء الارتباطية ارتباطية أيضاً، فإذا أتى بجزء طبق فتوى واحتمل بطلان ما أتى به واقعاً وأتى بجزء آخر طبق فتوى الآخر واحتمل البطلان فهو يشكّ في صحّة صلاته، ولا حجّة معتبرة لديه في صحّتها، ولا يفتي أي من المجتهدين بصحّتها، فلابدّ من الإعادة، وهو معنى البطلان.
والظاهر أنّ ما قاله السيّد الحكيم أمتن في البين. ولم نستطع تبيّن الفرق بين الحالتين بالنسبة لهذا المورد.
الاستنتاج
ان الاجتهاد واجب كفائي، وأن التقليد لغير المجتهد جائز، ولا يجوز للمجتهد أن يرجع إلى رأي غيره، وأن الأعلمية في المقلَّد معتبرة، وهناك ادلة استدل بها على وجوب الرجوع الى الأعلم، فالسيرة العقلائية جارية على الرجوع الى الأعلم عند العلم بالمخالفة، وورود بعض الروايات تؤكد ذلك.
الهوامش
[1] التوبة، 122.
[2] الآخوند الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص359.
[3] الغروي، التنقيح في شرح العروة الوثقى، ص30.
[4] الغزالي، المستصفى، ج2، ص125.
[5] الحكيم، مستمسك العروة الوثقى، ج1، ص26.
[6] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج18، ص4، ح5.
[7] الأنصاري، مجموعة رسائل فقهية، ص79.
[8] الغروي، التنقيح، كتاب الاجتهاد والتقليد، ص142.
[9] الحر العاملي، الفوائد الطوسية، ص411.
[10] الفاضل التوني، الوافية، ص399.
[11] الحر العاملي، وسائل الشيعة، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.
[12] الشريف الرضي، نهج البلاغة، ج4، ص30.
[13] المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص110.
[14] الغروي، التنقيح، كتاب الاجتهاد والتقليد، ص147.
[15] الصدر، دروس في علم الاُصول، ج1، ص185.
[16] الخميني، تحرير الوسيلة، ج1، ص6.
[17] الحكيم، مستمسك العروة الوثقى، ج1، ص62.
[18] الحكيم، مستمسك العروة الوثقى، ج1، ص11.
[19] الغروي، التنقيح، كتاب الاجتهاد والتقليد، ص77.
مصادر البحث
1ـ الآخوند الخراساني، محمّد كاظم، كفاية الاُصول، قم، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1409 ه.
2ـ الأنصاري، مجموعة رسائل فقهية وأُصولية، تحقيق عباس الحاجياني، قم، مكتبة المفيد، الطبعة الأُولى، 1404 ه.
3ـ الحر العاملي، محمّد، الفوائد الطوسية، قم، المطبعة العلمية، طبعة 1403 ه.
4ـ الحر العاملي، محمّد، وسائل الشيعة، تصحيح وتعليق الشيخ عبد الرحيم الرباني الشيرازي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الخامسة، 1403 ه.
5ـ الحكيم، محسن، مستمسك العروة الوثقى، قم، مكتبة المرعشي النجفي، طبعة 1404 ه.
6ـ الخميني، روح الله، تحرير الوسيلة، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1390 ه.
7ـ الشريف الرضي، محمّد، نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، بيروت، الطبعة الأُولى، 1387 ه.
8ـ الصدر، محمّد باقر، دروس في علم الاُصول، بيروت، دار الكتاب اللبناني، الطبعة الثانية، 1406 ه.
9ـ الغروي، علي، التنقيح في شرح العروة الوثقى، قم، مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي، الطبعة الثانية، 1426 ه.
10ـ الغزالي، محمّد، المستصفى في علم الأُصول، بيروت، دار الكتب العلمية، طبعة 1417 ه.
11ـ الفاضل التوني، عبد الله، الوافية في أُصول الفقه، تحقيق السيّد محمّد حسين الرضوي الكشميري، قم، مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1412 ه.
12ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه.
مصدر المقالة (مع تصريف بسيط)
التسخيري، محمّد علي، حول الشيعة والمرجعية في الوقت الحاضر، نشر المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه.