- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 13 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
الآثار المعنوية للصوم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين وخاتم النبيين حبيب اله العالمين أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
اللهم اخرجنا من ظلمات الوهم وأكرمنا بنور الفهم وافتح علينا ابواب رحمتك وانشر علينا خزائن علومك ومعرفتك.
الحديث حول الآثار المعنوية للصوم، ونبدأه -بحول الله تعإلى- ببيان ما هو المراد من الآثار المعنوية للصوم، وكذلك نبين ما هو الفرق بين الآثار المعنوية للصوم والآداب المعنوية للصوم.
ما هو المراد من الآثار المعنوية للصوم؟
الآثار هي عبارة عن المعطيات التي تتصل بالروح والعقل والنفس، فكل ما يؤثر في تسامي الروح، وكلُّ ما يسهم في تصفية العقل، وفي تزكية النفس، فهو أثر معنويّ. وذلك في مقابل الآثار الماديَّة للصوم، كالآثار الصِّحية، والآثار السلوكية المرتبطة بنظام المجتمع، أو المرتبطة بالسلوك الشخصيّ، إذ من الواضح أنَّ أثر الصوم لا ينحصر في الآثار المعنوية، بل يتَّسع ليشمل آثاراً صحية، وآثاراً اجتماعية، وآثاراً تتصل بالسلوك الشخصي.
هذا هو المراد من الأثر المعنوي، أو الآثار المعنوية للصوم، والتي قلنا أنها الآثار المرتبطة بالروح والعقل والنفس.
الفرق بين الآثار المعنوية، والآداب المعنوية للصوم:
أ-الآداب وسيلة للحصول على الآثار
المراد من الآداب المعنوية للصوم هو الأعمال التي جعلها الشارع وسائلَ لتحصيل الآثار المعنوية، فهي معبَرٌ وطريق لتحصيل الآثار، هي آداب يلتزمها المكلف مُتلقَّاةٌ من قِبَل الشَّارع، لا مبتكرة، وإنما هي مُتلقَّاةٌ من قِبَل الشارع المقدس، هذه الأعمال وهذه الآداب يُنتج التزامها الآثار المعنوية والتي هي مصب حديثنا إن شاء الله.
فالآثار المعنوية هي الحكمة، كما ورد في الروايات الشريفة أن: (يا ربِّ وما ميراث الصوم؟قال: الصوم يُورث الحكمة والحكمة تُورث المعرفة، والمعرفة تُورث اليقين، فإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح، بعسرٍ أم بيسر…)(۱)، ومن الآثار المعنوية التقوى، كما تشير اليها الآية المباركة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(۲)، ومن آثار الصوم المعنوية سكون القلب، كما ورد في الروايات الشريفة: (أن من ثمرات الصوم سكون القلب)، وكذلك من آثار الصوم المعنوية تثبيت الإخلاص، هذه هي أهم، أو أبرز الآثار المعنويَّة للصوم.
أما الآداب المعنوية للصوم فهي تختلف -كما قلنا-، إذ أنَّ الآداب وسائل لتحصيل الآثار. الآداب المعنوية، مثل: الاستغفار، تلاوة القرآن، الدعاء والمناجاة، التدبُّر، محاسبة النفس، مراقبتها، الصَّدقة على الفقراء والمساكين. هذه آدابٌ إذا التزمها المكلف حاز على الآثار المعنوية.
عملية الإمساك والصوم لله -جلَّ وعلا- هي إحدى الآداب، أي أنها إحدى الأعمال التي جُعلت كوسيلة من قِبَل الشارع المقدس لتحصيل الآثار المعنوية. وبهذا البيان يتَّضح الفرق بين الآداب المعنوية والآثار المعنوية للصوم.
ب-الآداب اختياريَّة، أما الآثار فغير اختياريَّة
واتضح أيضا مما بيناه أنَّ الآداب المعنوية للصوم أعمال اختيارية يقوم بها المكلف بمحض اختياره وليس للشارع فيها إلَّا دور البيان، الشارع وظيفته بيان الآداب والمكلف بالخيار بين أن يلتزم بهذه الآداب، أو لا يلتزم، أو يلتزم ببعضها ويترك البعض الآخر.
وبمقدار ما يلتزم به من آداب، بمقدار ما يتحصَّل عليه من آثار، فالآداب المعنوية أفعال اختيارية يفعلها المكلَّف أو لا يفعلها، إذ أنَّ الاختيار -كما ذكر العلماء- هو أنَّ لك أن تفعل، ولك أن لاتفعل، والإستغفار لك أن تفعله، ولك أن لا تفعله، وكذلك التدبُّر، وكذلك الصَّدقة، وكذلك تلاوة كتاب الله تعالى، والمناجاة، والدعاء، وقيام الليل، وما إلى ذلك من أفعال، فهي أفعال اختيارية كشف عنها الشَّارع، وبيَّنها، وشرَّعها واعتبرها على عُهدَة المكلَّف، أما العهدة الإلزامية -لكن الإلزام الذي لا يتنافى مع الاختيار-، أو بنحو التحبيب والحثّ الذي لا يبلغ حدَّ الإلزام.
أما الآثار المعنوية فليست اختيارية، بل هي مكافئات إلهية، ومعطيات تنشأ عن الإلتزام بهذه الآثار، هي وعدٌ إلهيّ مفاده: إنْ التزم المكلَّف بهذه الآداب كافئتُه بهذه الآثار. فإذا صام المكلف الصوم الخاص الذي نريده منه عندئذٍ أكافأه بأن أجعل في قلبه الحكمة، بأن أرزقه سكون القلب وهدوء الفؤاد، بأن أهبه التقوى والإخلاص وأقرِّبه. هذه كلها أمورٌ ليس للمكلف أن يتحصَّلها، هي منحٌ ومكافئات من الله -جلَّ وعلا- للمكلَّف، إلَّا أنَّ هذه المكافئات ليست مكافئات مجَّانية، هي مكافئات يتحصَّل عليها بواسطة الالتزام بهذه الآداب، فالآداب هي طريق تحصيل هذه الآثار، فمن أراد أن يتحصَّل على أثر الصوم-وهو الحكمة، وسكون القلب، والتقوى- فليلتزم بالآداب المعنوية.
هذا ما اردنا إثارته كمقدَّمة للبحث. وهناك نقطة نريد الإشارة إليها قبل بيان ماهي العلاقة بين هذه الآثار وبين الصوم، وهي:
أهمية التعرف على الآثار المعنوية للصوم:
التعرُّف على هذه الآثار هو الطريق لتحصيلها، من الصعب التوصُّل إلى هذه الآثار لمن يجهلها، لماذا؟ قلنا إنَّ هذه الآثار ليست مكافئات مجَّانية، وإنما هي مكافئات يُتحصَّل عليها بواسطة الإلتزام بالآداب، والالتزام بالآداب لا يتَّفق للمكلَّف التزامه إن لم يعرف ماهي المعطيات والمردودات التي تترتَّب عن هذه الآداب، وبتعبير أدقَّ: كلُّ إنسان عندما يريد الإقدام على الفعل لابدَّ أن يتصوَّره أولاً، فإذا تصوَّره، وأدرك فائدته في المرحلة الثانية، ثمَّ حصل عنده الإذعان والتصديق بهذه الفائدة، انعقد عندئذ العزم لديه على تحصيل هذه الفائدة، وانعقاد العزم على هذه الفائدة هو الذي يجعله يلتزم بهذه الآداب، وبتعبير أدق بالوسائل والطرق التي تبلغ به هذا الشيئ الذي أدرك فائدته، وأدرك مردوداته.
إذن لابدَّ أن نعرف هذه الآثار، وليست معرفةً تصوُّريةً -كما قلنا- إنَّ تصوّر الفعل وحده غير كافٍ في عقد العزم على تحصيله، لاينعقد العزم على تحصيل الشيئ بمجرد تصوره، التصورات التي تنقدح في الأذهان كثيرةٌ جدًّا وأمَّا ما يُقدِم عليه المُكلَّف من أفعال فهي أقلُّ بكثيرٍ من التصوُّرات التي تنقدح في ذهنه، فإذن يختار الانسان من تصوّراته مجموعةً من التصوّرات، لماذا يختارها؟ لأنه يُدرك فائدتها، ويُذعن بترتُّب فوائد ومردوداتٍ على تطبيقها فتنقدح الرَّغبة في النَّفس لتحصيلها، وعندها ينعقد العزم.
إذن لابدَّ من معرفة هذه الآثار حتى يحصل التصديق بفائدتها، وإذا حصل التصديق بفائدتها حصلت الرَّغبة في تحصيلها، وإذا حصلت الرَّغبة انعقد العزم على تحصيلها، وإذا انعقد العزم بحَثَ الإنسانُ عن الوسائل المُحصِّلة لهذه الآثار، من هنا تكمن أهمية استيعاب هذه الآثار -وليس تصورها، لابد من استيعابها- واستيعاب ما يترتَّب عليها من فوائد ومردودات، هذه مسألة أحببنا إثارتها، لأهميتها في دخول هذا البحث الذي سوف ندخل فيه الآن ان شاء الله.
الآثار المعنويَّة للصوم:
قلنا إنَّ الآثار المعنوية للصوم -كما أشارت الروايات الشريفة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام- هي سكون القلب، وهي التقوى، وتثبيت الإخلاص، والحكمة. هذه آثارٌ معنوية أربع تترتب على الصوم- وليس أيُّ صومٍ، كما ربما نبين ذلك-.
أولاً: الحكمة
نبدأ بالحكمة والتي هي أحد الآثار التي تترتَّب على الصوم. ورد في حديث المعراج(۳)، إنَّ رسول الله (ص) قال لربِّه: ياربي، وما ميراثُ الصَّوم؟ قال: الصوم يُورث الحكمة، والحكمة تُورث المعرفة، والمعرفة تُورث اليقين. فإذا استيقن العبد، لا يبالي كيف أصبح، بعسرٍ أم بيسر)(۴) فإذن ميراث الصوم هو الحكمة.
ما هو المراد من الحكمة؟
نستلهم المراد من الحكمة من كلمات أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام، ورد عن أبي الحسن الإمام الكاظم عليه السلام قال: (الحكمة هي الفهم والعقل)، المراد من الحكمة هو الفهم والعقل.
ماهو المراد من الفهم؟ وما هو المراد من العقل؟
الفهم هو رؤية الأمور على ماهي عليه من واقع، بمعنى أن تستوعب الأمر استيعاباً واقعياً، وتكون مُدرِكاً له، أما مجرّد أن تتصور هذه الأمور، وتكون هذه التصورات غير مطابقة للواقع؛ هذا لا يكون فهماً، هذا يكون جهلا، وقد يكون جهلا مركبا(۵).
إذن الفهم هو رؤية الأمور على ما هي عليه من واقع، واستيعاب الأمور على ماهي عليه من واقع، فالرجل الفاهم هو الرجل الذي لا ينظر إلى الأمور من منظار نفسيّ، عاطفيّ، فالعاطفة تحجب العقل عن إدراك الواقع، وتكون جداراً بين الواقع والعقل. كذلك حين يعتمد الإنسان وسائل غير برهانية للتعرُّف على الواقع، فإنَّه لن يصل إلى الواقع.
من هو الذي يصل إلى الواقع؟ ومن الذي يفهم الواقع؟ هو الذي يتأمَّل في كلِّ ما يشاهده، ويكون نظره إليه نظراً مُتأنياً، وليس نظراً مُرتجلاً، هذا أولاً. وثانياً يعتمد الوسائل البرهانية، والوسائل العقلائية للتعرُّف على الواقع.
هناك حدثٌ واحدٌ يشاهده اثنان، يفهمه الأوَّل، ويغفل عنه الآخر! ماهو سرُّ ذلك؟ سرُّ ذلك أنَّ الأوَّل اعتمد على التروِّي والتأمُّل والتأنِّي، وملاحظة الحيثيات المتصلة بهذا الأمر، هذا أولاً، وثانياً: اعتمد الوسائل العقلائية للتعرُّف على واقع هذا الأمر.
لذلك ورد في الرواية أنَّ: (العاقل هو الذي لا تلتبس عليه اللوابس)، الذي لا تلتبس عليه اللوابس هو الانسان الذي يعتمد طرقاً برهانية، طرقاً عقلائية لتحليل ما يشاهده. هناك أمران مهمَّان للوصول إلى الواقع: الأول هو اعتماد الوسيلة البرهانية العقلائية، والأمر الثاني هو تعمُّد فهم الواقع.
كثيرٌ ممن لا يفهم الواقع هو لا يريد أن يفهم، فتراه يعتمد على ما يخطر في ذهنه من انطباعات عن هذا الموقف الذي شاهده، ويعتمد هذه الانطباعات، ويرتِّب عليه الآثار دون أن يبذل مؤونة زائدة للتفكير والتأمُّل للتعرف على أنَّ هذا حقٌ أو أنه باطل، وللتعرُّف على ما ينبغي أن يحصل و ما لا ينبغي أن يحصل، ليس له أيُّ استعداد لأن يبذل هذه المؤنة، إذا افتقد الانسان هذين الأمرين فلن يصل إلى الواقع، هذا هو مراد من الفهم.
ب-المراد من العقل:
وأما ما هو المراد من العقل؟ فهو حسن تدبير الأمور، فالعاقل هو الذي يتمكَّن من تدبير أموره على الشَّكل المتناسب مع الحق، ومع مقتضيات العقل، ومقتضيات السِّيرة العقلائية الناشئة عن مقتضياتٍ واقعية، هذا هو العقل.
الفرق بين الذكاء والعقل
فرقٌ بين الذكاء والعقل، قد يكون الإنسان ذكيًّا ولا يكون عاقلا، العقل هو القدرة على تدبير الأمور، ويكون هذا التدبير هو التدبير المتناسب مع ما يتطلبه الواقع، ونقصد من الواقع هو الحق، وأما الذكاء فهو أمرٌ يخلتف تماماً عن العقل، وقد يجتمع في الإنسان ذكاءٌ وعقل، ولكن قد يفترق الذَّكاء عن العقل، فيكون الإنسان ذكيًّا ولا يكون عاقلاً، وأنا اثير هنا نقطة -لا يساء فهمها-، أنا أتصوَّر أنَّ الرِّوايات والأدلَّة التى أشارت إلى أنَّ النِّساء ناقصات العقول، وما قيل من نقض عليه بأنَّ كثيراً من النساء يتفوَّقون في المعارف وفي العلوم على الرجال، فما هو معنى أنَّ النساء ناقصات العقول، وما معنى قوَّامية الرِّجال على النساء؟
التمييز بين الذكاء والعقل يُساهم في الإجابة عن هذا الاشكال، هذا هو المراد كما نفهم من قول أبي الحسن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: (إنَّ الحكمة هي الفهم والعقل)، وهناك روايات أخرى أشارت إلى ما هو المراد من الحكمة، مثلا: قول الإمام الباقر عليه السلام: (الحكمة أن لا أتكلَّف ما قد كُفيته ولا أضيع ما وَليته)(۶) هذا بيانٌ لمصداقٍ من من مصاديق الحكمة، وهو تدبير الأمور على أحسن وجه، واستيعابها، وفهمها فهماً واقعيًّا، ثم تدبيرها تدبيراً متناسباً مع ما يقتضيه البرهان وتقتضيه الطريقة العقلائية، فلا أتكلَّف ما قد كُفيته، لأنه فضولٌ وعناء بلا داعٍ وبلا مبرِّر، ولا أضيِّع ما وليته، إذ أنَّ هذا التضييع ينافي الحكمة، إذ أنه قد اوكلت إليَّ مهمة وعليَّ أن أُحسن تدبير هذا الامر، فضيَّعته وجعلتُه يذهب ويفوت، وكان الأجدى بي أن أُحسن تدبيره، وأُتمَّه على أوفق وجه.
هناك رواية اخرى: (من الحكمة أن لا تتعاطى ما ليس في قدرتك، ولا يخالف لسانك قلبك، ولا تتكلَّم فيما لا تعلم، ولا تترك الأمر عند الإقبال، ولا تطلبه عند الإدبار)(۷) وقال الإمام السجَّاد عليه السلام (رأس الحكمة مخافة الله)(۸) وقال أمير المؤمنين عليه السلام: (رأس الحكمة تجنُّب الخدع)(۹) وقال رسول الله (ص): (الرفق رأس الحكمة)(۱۰) وكلُّ هذه المعاني التي ذُكرت في هذه الروايات هي بيانٌ لمصاديق الإنسان الحكيم.
الارتباط بين الصوم والحكمة
ونشير في نهاية الحديث إلى ما هي العلاقة بين الصوم وبين الحكمة؟ إنه قد لا يلحظ وجه للعلاقة بين الحكمة والصوم، الرواية الشريفة تكشف عن وجود ارتباطٍ وثيق بينهما، قال رسول الله (ص) في حديث المعراج: إنَّ الله عز وجل قال له في -حديث قدسي-: (يا أحمد، إنَّ العبد إذا أجاع بطنه، وحفظ لسانه، علَّمتُه الحكمة، وتكون حكمته نوراً وبرهاناً)(۱۱)، وفي رواية أخرى عن الإمام علي عليه السلام: (التخمة تُفسد الحكمة، والبِّطنة تحجب الفِّطنة)(۱۲)، وقال عليه السلام: (القلب يتحمَّل الحكمة عند خلوّ البطن، والقلب يمجُّ الحكمة عند امتلاء البطن)(۱۳).
وهذه مسالة وجدانية، فهناك ثلاث قوى في النفس: القوة العاقلة، والقوة الغضبيَّة -المعبر عنها بالقوة السَّبُعية-، والقوة الشهوية. وهي قوى متغالبة -كما يقول علماء الأخلاق والفلسفة العملية- هذه قوى متغالبة، فعندما تطغى القوَّة الشَّهوية فإنَّ القوَّة العاقلة تضعُف، وأشارت الروايات إلى ذلك -كلَّما قويت الشهوة ضعُف العقل، وكلَّما قوي العقل ضعُفت الشهوة-، هاتان قوتان في النفس متغالبتان، فالإنسان إذا امتلأ بطنه من بالطعام، وامتلأت نفسه بحب الشهوات، وأقدم على حبِّ ما يُلهي وما تلتذُّ به النفس، عندئذ يضعف عقله، وضعف العقل هو ما ينافي الحكمة ونكتفي بهذا المقدار لانتهاء الوقت، والحمد لله رب العالمين.
أسئلة حول المحاضرة
فيما يلي بعض الأسئلة التي وجِّهت لسماحة الشيخ من قبل الإخوة الحضور:
السؤال الأول:
هناك الكثير من العرب ممن عرفوا بالحكمة قبل الإسلام، وفضيلتكم قلتم بأنه بناءً على حديث المعراج فأن الصوم يورث الحكمة، فاريد أن استفسر عن هؤلاء الذين لم يعرفو الصيام ومع ذلك عُرفوا بالحكمة، بل حتى في العصر الإسلاميّ هناك كثيرٌ من الفلاسفة غير المسلمين ممن عُرفوا بالحكمة. فما معنى الحكمة؟
الجواب:
أحسنتم، أولاً: نحن لم نقل أنَّ الوسيلة الوحيدة لتحصيل الحكمة هي الصوم، وإنما الصوم هو أحد الوسائل التي تُورث الحكمة، وهناك وسائل أخرى يمكن لها أنْ تورث الحكمة في القلب، مثلاً: (من أخلص لله أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)(۱۴)، هذه أحد وسائل تحصيل الحكمة هذا أولاً.
وثانياً: المراد من الحكمة في الرواية الشريفة، في حديث المعراج، وفي سائر الروايات التي نُقلت عن أهل البيت عليهم السلام، يختلف عمَّا هو المراد من الحكمة بحسب المصطلح الفلسفي، -ونحن لا نريد خوض هذه المسألة-، فهناك مصطلحان متفاوتان، يعني يتحدان في التعبير، يختلفان في المعنى، فالحكمة لها أصلٌ يونانيّ، وهي معرَّبة عن كلمة فيلسوف، كلمة فيلسوف بمعنى محبٌّ للحكمة -اسم فاعل-، والمراد من الحكمة هو ما يقابل السفسطة، فاعتماد البرهان في مقابل اعتماد السفسطة في الوصول إلى المعارف والحقائق هي معنى الحكمة في مصطلح الفلاسفة، التعرف على الوجود، وما يتصل بالوجود، هو معنى الحكمة في كلمات الفلاسفة.
وأما المراد من الحكمة عند العرب فيقارب ما هو المراد من الحكمة في الروايات، ولكنه يختلف؛ إذ أنَّ الروايات ضيَّقت في بعض مواردها من دائرة الحكمة بحسب المفهوم اللغويّ، ووسَّعت من دائرة الحكمة بأوسع مما عليه المفهوم اللغوي، فمثلا ورد في الروايات: (رأس الحكمة مخافة الله)(۱۵)، هذا المقدار فيه توسيع لدائرة الحكمة بحسب المصطلح الروائيّ، وهو يختلف عمَّا هو عليه المصطلح اللغوي.
وفي رواية أخرى: (رأس الحكمة تجنُّب الخدع)(۱۶)، كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام، فمعاوية –مثلاً- يُعدُّ حكيما بحسب المفهوم اللغوي؛ لأنه استطاع أن يدبِّر أموره، واستطاع أن يلي الخلافة، وأن يتسلَّط على رقاب المسلمين. ولكن بحسب المصطلح الإسلامي والروائي فإنه ليس حكيماً؛ لأنَّ رأس الحكمة ترك الخدع، رأس الحكمة الرِّفق، رأس الحكمة مخافة الله.
فإذن هناك أنواع من الحكمة: الحكمة بحسب المصطلح الفلسفيّ، وهناك الحكمة بحسب المصطلح اللغويّ، وأخيراً، هناك الحكمة بحسب المصطلح الإسلاميّ -ان صحَّ التعبير، أو قل: بحسب المصطلح الروائيّ- وهذه قد تستوعب بعض جوانب الحكمة من المصطلحين، وقد تُضيِّق من دائرة الحكمة فتُخرِج بعض الأمور التى تُعدّ حكمةً بنظر العرب، أو بنظر الفلاسفة، إلَّا أنها ليست حكمة بنظر الشريعة.
فالآية الشريفة التي قالت: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾(۱۷)، لا تقصد من أوتي الفلسفة، ومن عرف الفلسفة. إنَّ من تمكَّن من تدبير الامور فهو إنما أوتي جزءا من الخير الكثير، ولم يؤت تمام الخير. الذي يتحصَّل على تمام الخير هو الذي أشرنا إليه في الروايات، وهو من يتعاطي مع الأمور بتدبير حسنٍ مع خوف الله-عز وجل-.
لاحظوا ماذا تقول الرواية بعد ذلك: (وأن لا يخالف قلبه لسانه)، هذه المسألة لا يعتمدها الحكماء في تعريف الحكمة -لا حكماء العرب، ولا حتّى الفلاسفة، فهي ليست دخيلة بحسب المفهوم الفلسفي-. خوفُ الله، ترك الخداع، وأن لا يخالف مافي القلب ما على اللسان، الرِّفق، مخافة الله، كلُّ هذه الأمور هي من الحكمة بحسب المصطلح الروائيّ وهي من موروثات الصوم لا من موروثات شيئ آخر، مما أشرتَ إليه في السؤال.
السؤال الثاني:
ما بالنا لا ننال شيئاً من الآثار المعنوية للصوم، كالحكمة، والتقوى، وتثبيت الإخلاص، على الرغم من أنَّ الكثير منَّا يُكثر من الإستغفار، والصدقة، وقراءة القرآن، وهي من الآداب المعنوية للصوم؟!
الجواب:
ليس المقصود من الآداب فعل الجوارح فحسب، أكدَّت الروايات على أنَّ الالتزام بهذه الامور إذا صاحب صوم القلب -وهو بحثٌ يحتاج إلى بيان-، فحينئذٍ يحصل الصائم على هذه الآثار، وقلنا إنَّ تحصيل هذه الآثار يتوقف على الإلتزام بهذه الآداب، والإلتزام بهذه الآداب يكون بشروطٍ، وأهمها: رفع كثير من الموانع الموجبة لتحصيل هذه الاثار.
وصوم القلب شرط ضروريّ، فإنَّ وعاء الحكمة هو القلب، ولا يمكن أن تتزاحم المتناقضات في وعاءٍ واحد أو توضع الحكمة في وعاء مشغولٍ مملوء، فلابدَّ من تصفية هذا الوعاء وتنقيته؛ حتى يكون من الممكن أن تحلَّ الحكمة في هذا الوعاء، وحلول الحكمة في هذا الوعاء -وهو القلب- يتطلَّب الالتزام بالآداب بالمعنى المطلوب شرعاً.
السؤال الثالث:
الشيخ ذكر أنَّ هناك آثاراً معنويةً للصوم، من ضمنها الحكمة، والتقوى، وسكون القلب، والإخلاص، إلى آخره. وذكر عدَّة وسائل لتحصيل هذه الآثار المعنوية، لكنه توقف فقط عند شرح الحكمة، وحاول أن يفسر الحكمة من خلال قول الامام الكاظم عليه السلام، وحصرها بالفهم والعقل، ثم شرح الفهم والعقل شرحا وافياً.
السؤال يقول: لم تتعرض إلى الأجزاء الأخرى وهي سكون القلب، وتثبيت الاخلاص؟ ونقطة ثانية: هناك معنى لطيف جدا أشار اليه الشيخ وهو الفرق بين الذكاء والعقل، هناك معنى لطيف للفرق، وأنه قد يكون هناك ذكاء ولا يكون هناك عقل، فحبذا لو تتعرّضوا إليه، أتصور أنه يمكن أن تكون وراءه فائدة كثيرة.
ملاحظة أخرى: القوة العاقلة، والقوة الشهوية، والقوة السبعية، وحتى الحكمة، قد فسرها الشيخ بالرجوع إلى التفسير اليوناني وهي الحكمة وعلم الفلسفة، كذلك الكلام بأن القوة العاقلة والقوة الشهوية معنى فلسفي مأخوذ من الحكمة اليونانية، لكن أتصور أن علم النفس الحديث يتناول القوّة العاقلة، والقوة الشهوية، والسبعية، كجزء من الفلسفة العملية، الآن علم النفس الحديث ممكن يدعم هذه المعني ويوضحه.
حبَّذا لو توضحوا ذلك لو كان هناك مجال. أيضا يبدو أنّ عند الشيخ تفسير آخر للواقع وأنه ليس من المجريات اليومية، وإنما تصوّره للواقع هو الواقع الحق والواقع الحقيقي، فالشيخ عنده تفسير خاص للواقع، أطلب من الشيخ توضيحه، فهل أنّ الواقع هو ما وضعه الله في الأمور أو هو الواقع الإلهي للأمور التي على الانسان أن يدركها، هل هذا المقصود بالواقع؟ أتصور لو يوضِّح الشيخ، راح تكون لنا فائدة أكثر، والحمدلله.
الجواب:
أما بالنسبة لما فسر به الإمام الكاظم لمعنى الحكمة من الفهم والعقل، وأنَّه يؤول إلى ما يُفسِّر به الفلاسفة، فهذا غير صحيح، فنحن أشرنا قبل قليل إلى أنَّ الحكمة بالمعنى الفلسفي يختلف تماماً عن الحكمة بالمعنى الروائيّ، وقد يلتقيان في بعض الجوانب -بحسب تعبير المناطقة أن بين التعريفين قد يكون عموم وخصوص من وجه، أو يكون عموم وخصوص مطلق-، لكن على أيّ حال هناك فرق بين المصطلحين، وإن الحكمة -بالمصطلح الفلسفي- بمعنى التعرُّف على الواقعيَّات بواسطة البرهان، هذا هو خصوص المراد من معنى الحكمة حسب المصطلح الفلسفي، وهو لا يتَّصل –أصلا- بأنَّ هناك شخص يستوعب الحكمة أو لا يستوعبها، هو علمٌ قائمٌ برأسه، سواءًا استوعبه أحدٌ، أم لم يستوعبه أحد، فلا صلة للإنسان بذلك، أما الحكمة بحسب المصطلح الروائيّ فيتوقف على أمرين:
الأمر الأول، أن يكون هناك وعاءٌ وهو القلب، يتحمَّل معنى رفيعاً وهو الحكمة، هذا فرقٌ أساسيّ بين المصطلحين، النقطة الأخرى هي أنَّ حسن تدبير الأمور -الذي هو العقل-، واستيعاب الأمور على ما هي عليه من واقع، هذين ركنين أساسين في الحكمة -كما أشار إليه الامام الكاظم عليه السلام-، وهناك تفسير يوسِّع من دائرة الفهم، ويوسِّع من دائرة العقل، قد بيّناه، وقلنا أن هناك روايات أشارت إلى أنَّ رأس الحكمة مخافة الله، أوّل الحكمة ترك الشهوات، وآخرها مقت اللذائذ والمشتهيات- لو كنّا قد تحدثنا عنها لاتضح الفرق أكثر ولكن الوقت لا يسع-.
السؤال الرابع:
يقولون أن الآثار المعنوية لايمكن السير عليها إلا لذي حظٍّ عظيم، أي من أصحاب السير والسلوك، فما تعليقكم؟
الجواب:
يعني هي ليست حكراً على أصحاب السير والسلوك، أصحاب السير والسلوك ولدوا ولم يكونوا من أصحاب السير والسلوك، وإنَّما سعوا لأن يكونوا من أصحاب السير والسلوك، فساروا في طريق الله -عزَّ وجلَّ- على وفق الضوابط المطروحة من قبل الشارع المقدَّس، وعندئذ وصلوا.
يعني هناك نقطة -أشرت إليها إشارة ولم أبيِّنها-، قلنا أنَّ المراد من الآداب هي الوسائل الذي اعتمدها الشارع، أردنا أن نحترز عن الوسائل التي ابتكرها بعض الصوفيَّة، وبعض العرفاء. فنحن لا نؤمن بأيّ وسيلة يُتوصَّل بها إلى الله -عزَّ وجلَّ- إذا لم تكن وسيلةً تلقَّيناها من قِبَل الشَّارع المُقدَّس.
أصحاب السير والسلوك عنوان واسع، يشمل العرفاء من أصحاب الحقّ، كالسيّد العلّامة الطباطبائي والسيّد الإمام (قد)، وهناك من أصحاب السير والسلوك من اعتمدوا وسائل وطرقاً للوصول إلى الله، وهذه الوسائل لا تمتُّ إلى الإسلام بصلة.
هذه مسألة أردنا الآن أن نثيرها، وبالنسبة لما أفاده السائل نقول: أنه ليس هناك أحدٌ مختصٌّ بهذه المرتبة، كلُّ أحدٍ يستطيع أن يصل غايته، إنَّ تحصيل هذه الآثار تكون بمقدار مايلتزمه الإنسان من آداب، والدين دين يسر، وكما ورد في الروايات (فأوغلوا فيه برفق)(۱۸)، اليوم لا تقدر أن تقرأ جزءً كاملً فأقرأ صفحة.
غداً إذا كان عندك استعداد لأن تقرأ صفحتين فاقرأ، اليوم لا تستطيع أن تقرأ دعاء كميل بأكمله، فاقرأ فقرة من دعاء كميل، لا تستطيع أن تقوم الليل بكامله، فصلِّ ركعتين، واقرأ آية من القرآن، وناجي الله بدعاء لا يتجاوز سطرين، وعندئذٍ تصل. هذا الدين دين يسر فأوغلوا فيه برفق، ولا تتوقَّعوا أن تحصلوا على المراتب العالية التي وصل إليها أعلامنا -رضوان الله عليهم- بمجرد أن تلتزموا في شهر، أو شهرين، ببعض الآداب.
السؤال الخامس:
هل بإمكان الشاب المنحرف أن يحصل على هذه الآثار؟
الجواب:
قلنا إنّ لكلِّ أحدٍ أن يتحصَّل على هذه الآثار، وتحصيل هذه الآثار يكون بالالتزام بهذه الآداب، مع إزاحة الحُجُب، وإزاحة الحُجُب هو الخطوة الأولى لتحصيل هذه الآثار.
وقد يكون إزاحة الحُجُب بواسطة الالتزام بهذه الآداب، فعندما يلتزم المُكلَّف بقراءة القرآن، كثيرٌ من هذه الحجب التي على القلب ستنزاح، ويبدأ القلب بالاستعداد لتلقِّي فيوضات الله -تبارك وتعالى-.
السؤال السادس:
شيخنا احب أسئل، إن هناك كثير من الناس يتَّهم الاسلاميين، أو يتَّهم المتدينين بأنهم دائما يحاولون أن يعطوا العبادة آثاراً وفوائد؛ وذلك للردّ على ناقديها، لماذا لا نقول أن مسألة الصوم، أو الحج، أو أيّ عبادة كانت، لماذا لا نأخذها على أنها مجرَّد عبادة، وأن الله فرضها، وأن ليس هناك أسرار معنويّة، وليس فيها آداب معنوية، وإنَّما هي أمور فرضها الله علينا، وعلينا أن نأديها؟
الجواب:
إذا لم نذكِّر المؤمنين بالقرآن، ممكن نقول هذا الكلام، القرآن أشار إلى أنَّ كلَّ عبادةٍ لها أثر، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾(۱۹)، وقال رسول الله (ص): (الصلاة معراج المؤمن)(۲۰)، وقال الله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(۲۱)، يعني إذا التزمتم بالصيام فإنَّ هناك آثاراً تترتب على الصيام، وقال رسول الله (ص): (اللهم أعط كل منفق خلفا، وأعط كل ممسك تلفا)(۲۲)، و(إن الصدقة تجلب الرزق، وتدفع البلاء المبرم)(۲۳)، هذه آثار تترتب، ورد أيضاً (صوموا تصحوا)(۲۴)، هذا أثر صحيّ، وهناك آثار اجتماعية.
كثيرٌ من العبادات تترتَّب عليها آثار، إنَّما الكلام أنه يجب أن لا نبتكر ونتبرع بآثار للعبادة، بل يجب أن تكون هذه الآثار قد جئنا بها عن طريق أهل الوحي والغيب، عن الله –عزّ وجلّ-.
السؤال السابع:
ما هي العلاقة الطردية بين خلوِّ البطن، وخلو العقل؟ وهل كلّ من يخلو بطنه يقوى عقله؟
الجواب:
ليس كل من يخلو بطنه يقوى عقله، هناك من يخلو بطنه فيضعف عقله، الرواية أشارت -كما قلنا- إلى أنّ الإنسان إذا أجاع بطنه. هناك جوع اضطراري يحصل للمكلف اتفاقاً، فيفقد توازنه، ويفقد رُشده، ولا يعرف ماذا يصنع، بل قد يرتكب العظائم من الأمور لأنه قد جاع، فلذلك قال أمير المؤمنين: (عجبت لمن لا يجد قوت يومه ألا يخرج شاهرا سيفه)، لأنه يفقد توازنه، فطبيعي أن يخرج شاهراً سيفه.
___________