القرآن وتشجيع المجاهدين وسبل تربيتهم على الجهاد

القرآن وتشجيع المجاهدين وسبل تربيتهم على الجهاد

2025-01-17

42 بازدید

إن قضية تشجيع المجاهدين والاستعداد الروحي والمعنوي يمكن أن يعد من أولى العوامل التي تساعد الجيش على الغلبة والانتصار، وقد اعتنى القرآن بهذا الموضوع عناية فائقة، وأولى له اهتماماً بالغاً؛ وذلك من أجل إيجاد الأرضية المناسبة، والأجواء الروحية والمعنوية التي تساعد المجاهدين على الجهاد، وقد استعمل أساليب مختلفة من أجل تحقيق ذلك، وسنتناول هنا اسلوبا واحدا، وسنعرض بعض الآيات المتعلقة به.

طريقة الترغيب والترهيب

من الطرق التي كان الأنبياء (ع) يمارسونها لدعوة الناس إلى الدين الحق وأيضاً يستعملونها في تربية الناس وهدايتهم؛ من أجل التزامهم بالعمل، وقيامهم بالتكاليف في ضوء التعاليم الدينية والتكاليف الربانية؛ هي طريقة الترغيب والترهيب، أو التبشير والإنذار، ولذلك أطلق على الأنبياء (ع) اسم مبشرين و منذرين، قال تعالى: فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ[1].

ومعنى الترغيب والترهيب ليس سوى ما هو متعارف في الاستعمالات العرفية، وهو كما يعبرون عنه بالتشجيع والتحذير، ومن أجل بسط البحث وتحليله أكثر سنتناول موضوع الترغيب والإنذار في مضمار الحرب والقتال بنحو منفرد بالإضافة إلى الآيات المتعلقة بكل واحد منهما.

1ـ نماذج من الآيات المتعلقة بالترغيب

هناك العديد من الآيات القرآنية تعرضت إلى موضوع تشجيع المجاهدين وحثهم على الجهاد، فجاء في بعض الآيات الوعد بالنعم الأخروية للمجاهدين، وجاء في بعضها الآخر الوعد بالنعم الدنيوية لهم.

ومن الطبيعي أن المحور الأساسي في تعاليم الأنبياء (ع) وإرشاداتهم هو السعادة الأبدية والنعم واللذائذ الأخروية، إذ إن النعم والسعادة الدنيوية لا يمكن مقارنتها إطلاقاً بالنعم والسعادة الأخروية الأبدية، ولكن من الطبيعي أيضاً أن هناك طبقة عريضة من الناس ولأي سبب كان سواء يتعلق بضعف الإيمان وقلة العزم والهمة، أم لأن الأمر يرتبط بسرعة النعم واللذائذ الدنيوية، أم لأي سبب كان تعتبر أن النعم والخيرات الدنيوية أكثر جاذبية واغراء، وهي أقرب للقلب والفؤاد، لذلك تعد محركاً قوياً ودافعاً حسناً لغرس النشاط، والسعي لدى هذه الطبقة من البشر.

من هنا إن القرآن في الوقت الذي رغب في تشجيع المجاهدين، وبشرهم بالنعم واللذة الأخروية الأبدية، شجعهم أيضاً وحفزهم عن طريق وعدهم بنعم وخيرات دنيوية أيضاً، وهنا نعرض بعض الآيات المتعلقة بوعد الآخرة والنعم التي سيحصل عليها المجاهدون هناك، ومن ثم نتناول الآيات المرتبطة بوعد الدنيا والخيرات التي سيسبغها الله على المقاتلين في سبيله في هذا العالم.

البشرى بالنعم الأخروية

هناك مجموعة من الآيات القرآنية وضمن تعابير وكلمات مختلفة تدعو الى تشجيع المجاهدين الذين قاتلوا في سبيل الله حتى بذلوا مهجهم ليتوجوا بوسام الشهادة، أو تضرروا وخسروا، وذهبت بعض أعضائهم جراء القتال، أو وقعوا في الأسر، أو الذين ذهبوا وشاركوا في الحرب، وقاتلوا العدو وناجزوه وخاطروا بأموالهم وأنفسهم، ورجعوا إلى أهلهم سالمين غانمين، فإن تلك الآيات القرآنية تبشر كل هؤلاء بنعم عظيمة وحياة طيبة خالدة، وهذه الآية الكريمة إحدى الشواهد على ذلك: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا[2].

إن الآية تقرب موضوع القتال في سبيل الله عن طريق استعمال المعاملة التجارية والبيع والشراء (يشرون)؛ وذلك لأن هذا المعنى قريب من الجميع ويفهمه عامة الناس، وهذا المعنى سيكون مؤثراً حتى في الذين يفكرون ببيع دنياهم مقابل النعم الأخروية الخالدة، ويحسبون هذا الأمر على هذا النحو من المعاوضة سوف يهبون ويسارعون للجهاد في سبيل الله، قال تعالى:

لَّا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلَّاً وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا[3].

وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[4].

وهذه الآية تحدثت بطريقة هي أقرب لفهم الإنسان واستئناسه؛ وقد ذكرت موضوع المعاملة التجارية، والبيع والشراء عندما أرادت أن تقرب موضوع القتال في سبيل الله، وفي هذا السوق الذي يشتري الله تعالى من المؤمنين مالهم وأنفسهم ويكون ثمنها الجنة والنعم الأخروية الخالدة، يتم فيه عقد الشراء والتعاهد بين الله والمؤمنين، الأمر الذي ذكره الله تعالى في كتبه السماوية، وحيث لا يوجد عقد أو عهد أضمن وأقوى عرى من عهده ووعده تعالى، لذلك يجب أن لا يتردد أحد في هذه التجارة، ويشكك في الربح العظيم الذي ينتظره المؤمنون في هذا العقد، وهذه المعاملة والفوز والسعادة الكبرى التي تعقب ذلك.

وفي آية أخرى يعبر الله تعالى عن حبه للمجاهدين الذي يقاتلون في سبيله باستقامة وثبات فيقول: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ [5].

ويقول الله تبارك وتعالى في آية أخرى: إن الإيمان والجهاد في سبيل الله تجارة مربحة، تنجي الإنسان وتخلصه من العذاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَٰلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ[6].

البشرى بالنعم الدنيوية

ومن طرق تشجيع المجاهدين على الجهاد هو ورود مجموعة من الآيات القرآنية، تعد المجاهدين في سبيل الله بالنعم والخيرات الدنيوية أيضاً، ليدركوا أن سعيهم مثمر، وجهودهم نافعة ومفيدة في هذا العالم أيضاً، وهذا الأمر سوف يدفعهم إلى المضي في أداء الواجبات والمهمات الخطيرة والجليلة. ولكن لو لم يتضمن فعل الجهاد داعياً ربانياً، ونية صادقة للعمل بالتكليف، وخلا من قصد التقرب إلى الله تعالى، وكان باعث القتال هو الحصول على الجزاء المادي والدنيوي فقط، فمثل هذا العمل والسلوك ليس له أية قيمة في ضوء رؤية الإسلام وتعاليمه، وقد ركزت على هذه الحقيقية روايات عديدة.

وقد جاء في بعض الروايات: إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى فمن غزا ابتغاء ما عند الله عز وجل فقد وقع أجره على الله عز وجل، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالاً لم يكن له إلا ما نوى[7].

وكيفما كانت الصورة إن الوعد بالنعم الدنيوية والخيرات المادية يمكن أن يؤثر أيضاً في سلوك كثير من الناس وعملهم، ويدفعهم لمواجهة العدو وتقوي ثباتهم واستبسالهم عند القتال، لذلك لم يغفل القرآن الكريم عن مثل هذه الوعود والبشائر، وذكر بها في آيات ومناسبات عديدة.

وينبغي الالتفات إلى أن هذا اللون من التربية والتهذيب لا يختص بتشجيع المجاهدين وتوجيههم فقط، بل وظف القرآن هذا الأسلوب أيضاً في مواطن عديدة غير الجهاد، وهنا نشير إلى بعض هذه الآيات القرآنية الخاصة بتبشير المجاهدين بالمغانم والنعم الدنيوية، فيقول الله تعالى في أحد المواضع مخاطباً المجاهدين المسلمين: وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا [8].

وفي آية أخرى يكون وعده على هذا النحو: لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا[9].

البشارة عن طريق مدح المجاهدين والثناء عليهم

من الأساليب الأخرى التي يستخدمها القرآن في تشجيع المجاهدين على الجهاد، والتي يمكن أن تكون لوناً من ألوان الترغيب والتبشير، وغرس روح الاستعداد، ورفع المعنويات في نفوس المجاهدين، وتشجيع المجاهدين للجهاد والقتال في سبيل الله هو أسلوب المدح، والإطراء على المجاهدين، وهنا نستعرض من باب المثال لا الحصر إحدى الآيات القرآنية التي تتناول هذا المضمون، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[10].

فهذه الآية تقول: إن بعض المسلمين لو تخلفوا عن أداء التكاليف المطلوبة منهم وعملهم، بل حتى لو ارتدوا عن دين الله فلن يضروا الله بشيء، لأن غرضه سوف يتحقق ومبتغاه سيمضي من خلال أناس غيرهم، وتسلط هذه الآية الضوء على صفات هذا الصنف ومزاياه من الناس فتمدحهم وتثني على مواقفهم، فمن هذه الصفات أنهم يحبون الله ويحبهم الله.

وتضيف الآية أيضاً أن هؤلاء يتواضعون أذلاء لعباد الله الصالحين، لكنهم أشداء أعزة على الكافرين، والأعداء والمنكرين لتعاليم الدين، ويجاهدون في سبيل الله، ومن هنا تراهم لا يكترثون عند الحرب بالهزيمة والانكسار، ولا يخشون أن يلومهم أحد.

وبالجملة لا يختلجهم أي قلق أو اضطراب من ذلك؛ بل انصبت كل جهودهم ومساعيهم على أداء التكاليف الإلهية، وأن يكونوا في أقصى درجات الانصياع والطاعة لأوامر الله تعالى، وفي ختام هذه الآية الكريمة يذكر الله سبحانه وتعالى بأن هذه الصفات والنعوت التي يتحلى بها هؤلاء المجاهدون في النهاية هي عناية إلهية خاصة، وفضل، وكرم.

وعليه إن سياق هذه الآية ولحن الكلام الذي ورد فيها هو المدح العريض والثناء الجميل للمجاهدين في سبيل الله، وبسبب وجود الخصال الحميدة وأفضل تلك الصفات وأحزمها هي قتال الأعداء ومناجزتهم دون خشية لومة لائم، لذلك تراهم يستحقون كل هذا الإطراء من الله تعالى سبحانه، ومن الوضوح بمكان أن يكون هذا الأسلوب مؤثراً جداً، وله الأثر البالغ في نفوس المؤمنين والمسلمين، وموجباً لترغيبهم وتشجيعهم على مقاتلة أعداء الله ومحاربتهم.

2ـ نماذج من الآيات المتعلقة بالإنذار والترهيب

من الأساليب الأخرى التي يستخدمها القرآن في تشجيع المجاهدين على الجهاد هو إن القرآن الكريم وكما استخدم الترغيب والبشارة، فإنه يتعرض أيضاً إلى العذاب الأخروي، والبلاء والمصائب الدنيوية عن طريق نهج الإنذار والترهيب، وذلك من أجل حث المجاهدين على القتال.

إن كثيراً من الناس يتأثرون أكثر بطريقة الترهيب والترغيب الدنيوي من الترغيب والترهيب الأخروي ويسارعون للقتال والحرب عندما يشعرون بالثواب العاجل، ويخيفهم العقاب والبلاء القريب على العكس من الثواب والعقاب الأخروي.

وهنا نتناول إحدى الآيات القرآنية المتعلقة بذلك: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ[11].

وهذه الآية الكريمة تحمل وعيداً وترهيباً لاذعاً وجاداً، فيحذر الله فيها الذين يتقاعسون عن أداء التكليف ويقصرون في تنفيذ الأوامر الإلهية، وينذر الذين مازالت نفوسهم متعلقة بالأهل والأحبة أو تهوى قلوبهم بعض الملذات المادية والذين يأملون بالراحة والاستجمام، وبسبب ذلك يمتنعون عن المشاركة في أمر بالغ الأهمية، ويتمردون على الأمر بالحضور في الظروف الصعبة، ويتوعدهم بتحطيم كل هذه الآمال والطموحات عن طريق الغضب والعقاب الإلهيين المحدق بهم.

والقرآن الكريم بعد أن يعدد بعض العقبات التي تمنع من المشاركة في القتال يشير هنا عبر لسان التحذير والوعيد إلى أن الإنسان لو كان يحب ذويه وأهله، ومن يحيط به أكثر من حبه وتعلقه بالله، ويفضل المال والتجارة والمسكن؛ وبنحو عام الدنيا بمالها وجمالها، على نحو يكون ذلك التعلق والارتباط عائقاً أمام المشاركة في الجهاد في سبيل الله فإن هذا الأمر يؤدي إلى الفسق والمروق, ومثل هذا الإنسان عليه أن ينتظر حلول العقاب والبلاء عليه، ويرتقب العواقب المرة والخطيرة جراء عمله هذا من قبل الله تعالى.

إن أقل درجة يحب العبد المؤمن فيها ربه تعالى هي أن لا تكون محبته له أقل منزلة من محبته للأشخاص أو الأشياء الأخرى، وأما لو تحدثنا عن الدرجات القصوى للإيمان فإن الإنسان المؤمن يبلغ درجة لا يعتبر أي شخص أو أي شيء له المحبة المستقلة والعشق الحقيقي سوى حبه وعشقه الله تعالى.

وفي هذه المرحلة تستمد كل المجودات الأخرى محبتها في قلب المؤمن من محبة الله وعشقه، ولكن لو لم يبلغ المؤمنون هذه المرحلة من المحبة والعشق الإلهي، فيجب أن لا تكون محبة الله أقل منزلة ونصاباً في قلب المؤمن من محبة الأشياء الأخرى، والمتعلقات المادية، وصلة الأقارب والأرحام.

وأقل ما يتوقع من المؤمن هو ترجيح حب الله وتغليبه، والتعلق به عندما يدور الأمر بينه وبين محبة الأشياء الأخرى، ويختار الطريق الذي فيه رضا الله سبحانه وتعالى وقربه، هذه هي أقل منزلة من منازل الحب والعشق للإله العظيم وهي المرتبة التي يمكن أن تخلص الإنسان من السقوط في الهاوية.

ويقول سبحانه وتعالى في موضع آخر في هذا المضمار أيضاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[12].

هذه الآيات الكريمة تخاطب مجموعة من المؤمنين الذين ضعف تدينهم وإيمانهم، ويشمل هذا الخطاب أيضاً المنافقين الذي يتظاهرون بالأيمان والاعتقاد، لكنهم يماطلون في أمر الجهاد طبعاً، ويتعذرون عنه بسبب تعلقهم المفرط بالدنيا وما فيها، ففي هذه الآيات الشريفة يعاتب الله تعالى مثل هؤلاء الأفراد لتثاقلهم إلى الأرض عندما يأتي نداء الجهاد ويتقاعسون عن المشاركة في القتال في سبيل الله، ولا ينهضون من أماكنهم عندما يؤمرون بالنفر إلى مواجهة الأعداء.

فيخاطبهم الله: هل استغنيتم عن الحياة الآخرة ورضيتم بمتاع الدنيا وحطامها؟! في حين لا يعتد إطلاقاً بالحياة الدنيا أمام الحياة الأبدية الخالدة، ولا يقاس خيرها وسعادتها بخير الآخرة وسعادتها، فلو لم تهبوا لمقارعة العدو ومجاهدته فسوف يأتيكم عذاب عسير من الله، ويبدلكم الله تعالى بغيركم لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الحق والعدل، ومن ثم يقومون بأمر الله ويقاتلون اعداءه.

ويقول الله تبارك وتعالى في آية أخرى في هذا السياق نفسه: هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم[13].

وفي هذه الآية يكون القرآن قد أعطى رسالة، وألقى مسؤولية الإنفاق في الجهاد في سبيل الله على عاتق القادرين على الجهاد المالي في المواقع الخلفية للجهاد، وعلى هامش الصراع الدائر، ليكونوا سنداً وظهيراً للمجاهدين في جبهات القتال؛ وليعينهم على التقدم وبالنتيجة يعطيهم الأمل العريض بتحقيق النصر أمام الأعداء، لكنهم يبخلون في أداء هذه المسؤولية، ويمتنعون عن بذل أموالهم وإنفاقها في سبيل الله والجهاد ضد أعدائه، ويتبنّ أن النفقات والمساعدات المالية التي كانت تبذل عند نزول هذه الآية، وفي الصدر الأول للإسلام كان أكثرها من أجل تغطية نفقات الحرب والجهاد في سبيل الله، وهي نفقات يرى المسلمون أنفسهم ملزمين بدفعها؛ لتكون حافزاً قوياً لنصرة المسلمين، وارتفاع راية الإسلام على دعوات الكفر.

وهذا العمل أيضاً سيكون سبباً لافتخار فاعله واعتزازه وسعادته، الأمر الذي يمكن أن يناله أقل واحد من بين الفاعلين وكيفما كان الأمر فإن الله تعالى يخاطب المسلمين القادرين على إنفاق المال في سبيل الحرب لكنهم يمتنعون عن ذلك، ولا يشاركون في دفع نفقات هذه الفريضة الالهية العظيمة وكلفتها، محذراً إياهم من كفهم عن دعم الحرب بالمال، إنكم لو أحجمتم عن الإنفاق فستستبدلون بأناس آخرين ليسوا بخلاء مثلكم، ولا يمتنعون عن الإنفاق في هذا المجال، وسيبذلون أموالهم في هذا السبيل برغبة وشوق.

ويقول الله تعالى في آية أخرى: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ [14].

وهذه الآية هي الأخرى من بين الآيات القرآنية المتعلقة بالجهاد؛ التي تدل على هذه الحقيقة، وهي أن المسلمين لو امتنعوا عن إنفاق أموالهم في سبيل الله، ولم يمدوا حرب المسلمين ضد إعدائهم بنفقات الحرب، فمن الطبيعي جداً أن يكون النصر حليف أعداء الإسلام في تلك الحرب، وبالنهاية سيقمع المسلمين أعداؤهم، وسوف يضيع منهم كل شيء، إذاً البخل والامتناع عن المشاركة في دفع نفقات الحرب ليس خسارة وهزيمة اقتصادية عند المسلمين فحسب، بل سوف يتلاشى كل شيء بما فيه المال، والنفس، والعرض والشرف والكرامة، والهيبة، والموقع والمكانة، والقدرة، والعزة والدين، والمذهب وكل ما سوى ذلك.

3ـ الذم والعتاب على ترك الجهاد سبيل آخر للتحذير

من الطرق الأخرى التي يعتبرها القرآن نافعة ومجدية في تشجيع المجاهدين وتحفيزهم على الجهاد والتي يمكن أن تعد إحدى طرائق الإنذار والتحذير أيضاً هي معاتبة الذين يهملون الجهاد تجاه العدو، ويستسهلونه، ويعدونه أمراً يسيراً، وقد يؤدي هذا الموضوع إلى ترك الجهاد لدى بعضهم أحياناً، وفي هذا السياق يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا * وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا[15].

ومن الممكن أيضاً الإفادة من هذه الآيات الكريمة في أن هناك أناساً بين المسلمين كانوا وما زالوا يعتذرون عن الحضور في الحرب، وغالباً ما تكون الحرب صعبة وثقيلة عليهم، وعندما يبررون امتناعهم عن الحرب، ويعرضون العقبات التي أدت إلى تراجعهم، وحالت دون مشاركتهم فيها، سوف يؤثر على الآخرين، فيخافون الحرب وقد لا يذهبون إلى ساحات القتال، ولم يبق تقاعس هؤلاء عند هذا الحد؛ بل لو هزم المسلمون في الحرب أمام العدو أو استشهدوا أو جرحوا فيها، سيقولون لقد أكرمنا الله ولم نُبْتَل بهذه المصائب والآلام التي لحقت بالمسلمين.

ولو كنا قد ذهبنا إلى الحرب، وشاركنا فيها، لم نبق سالمين، وللحق بنا ما لحق بهم، وأما لو هزم العدو وانتصر المجاهدون المسلمون، وكسبوا غنائم من الأعداء، هنا يقولون يا ليتنا كنا قد وفقنا للمشاركة في القتال، وجاهدنا معهم فنحصل على هذا الفوز وهذه الغنائم، وكأن شخصاً وقف حائلاً دون حصولهم على التوفيق للحضور والمشاركة في القتال، أو يتمنون لو أن أرواحهم كانت في عالم آخر لأخبروا عن مصير الحرب والقتال.

ومن الواضح أن هذه الآية الكريمة ومن خلال استعراض الصور والأقوال التي ذكرها المتقاعسون عن الجهاد، توبخ هؤلاء وتلومهم عن انزوائهم جانباً، وتعاتبهم على النفاق والدجل الذي يمارسونه في الصورتين كلتيهما: انتصار المسلمين أو هزيمتهم سعياً منهم في تبرير سلوكهم بذرائع مكشوفة.

وفي موضع آخر نرى أن الله تعالى يذم الذين يخافون من المشاركة في الحرب، فيقول: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلَاً[16].

لم يصدر الأمر بالجهاد في بداية الدعوة الإسلامية، حينما كان المسلمون في مكة، وكذلك في بداية الهجرة إلى المدينة؛ والسبب في ذلك يعود إلى أن عددهم قليل جداً، وكانت كل الظروف غير مؤاتية لذلك إن لم تكن في ضررهم، وكان المسلمون مكلفين في تلك المرحلة بالإعداد النفسي وصناعة الذات، لكن بعض المسلمين كانوا يعترضون على النبي (ص) لعدم إذنه بقتال المشركين ومواجهتهم.

وما إن جاء الإذن بالجهاد، قام النبي محمد المصطفى (ص) بتشجيع المجاهدين على قتال الكفار والمشركين؛ إلا أننا نجد كثيراً من هؤلاء بدؤوا يماطلون في المشاركة في الحرب والقتال بذرائع مختلفة، ويختلقون الاعذار لينأوا بأنفسهم عن الحرب ويتملصوا منها، ففي هذه الآية نرى أن الله تعالى يوبخ مثل هؤلاء، ويعاتب الذين كانوا ينادون بالحرب قبل أوانها، ويطلبون من النبي (ص) مواجهة الأعداء، ولكن بسبب الأعذار الواهية التي قدموها للتملص من المشاركة في القتال بعد صدور الأمر به استحقوا اللوم والعتاب وقد جاء في هذه الآية الكريمة.

الاستنتاج

أن القرآن الكريم استعمل أساليب مختلفة من أجل إيجاد الأرضية المناسبة والأجواء الروحية والمعنوية التي تؤدي الى تشجيع المجاهدين على القتال، منها: طريقة الترغيب والترهيب من خلال طرح الآيات القرآنية المتعلقة بالترغيب وبالإنذار والترهيب ومعاتبة الذين يهملون الجهاد تجاه العدو ويستسهلونه ويعدونه أمراً يسيراً.

الهوامش

[1] البقرة، ۲۱۳.

[2] النساء، ٧٤.

[3] النساء، ٩٥ – ٩٦.

[4] التوبة، ۱۱۱.

[5] الصف، ٤.

[6] الصف، ۱۰ – ۱۲.

[7] المجلسي، بحار الأنوار، ج۷، باب ٥٣، الرواية ٣٨.

[8] الفتح، ٢٠.

[9] الفتح، ۲۷.

[10] المائدة، ٥٤.

[11] التوبة، ٢٤.

[12] التوبة، ۳۸ – ۳۹.

[13] محمد، ۳۸.

[14] البقرة، ١٩٥.

[15] النساء، ۷۱ – ۷۳.

[16] النساء، ۷۷.

مصادر البحث

1ـ القرآن الكريم.

2ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه‍.

مصدر المقالة (مع تصرف)

مصباح اليزدي، محمّد تقي، الحرب والجهاد في القرآن الكريم، بغداد، مؤسّسة العرفان للثقافة الإسلامية، الطبعة الأُولى، 1436 ه‍، ص175 ـ ص192.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *