نصرة المؤمنين في الحرب من خلال الدعم الإلهي الغيبي

نصرة المؤمنين في الحرب من خلال الدعم الإلهي الغيبي

2025-01-15

10 بازدید

وعد الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم نصرة المؤمنين في الحرب بشرط تحقق بعض الظروف والقيود التي يجب على المؤمنين مراعاتها، وهذا الدعم الغيبي مرة يكون ذا خاصية باطنية ويمتاز بميزة روحية ونفسية، وتارة يكون ذا خاصية ظاهرية وخارجية.

الدعم الإلهي الغيبي وانتصار الحق

إن مقتضى الحكمة الإلهية أن تكون الحروب البشرية سواء أحسن الإنسان توظيفها واستخدامها أم أساء لها علاقة مباشرة باختياره وحريته، وفي ضوء تلك الحكمة يكون مصير الحرب في النهاية محكوماً بالانتصار الحتمي لأصحاب الحق والحقيقة.

وفي إطار تشجيع المسلمين وترغيبهم بـالجهاد يبشر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بنصرة المؤمنين وفوزهم، ووعدهم بالنعم الدنيوية والأخروية أيضاً؛ ولذلك يطرح هنا سؤال وهو: كيف يتحقق نصرة المؤمنين الذي يعد من مقتضى الحكمة الإلهية؟

وما هي طبيعة الظفر والفلاح الذي بشر به القرآن الكريم، ووعد به المولى تعالى المؤمنين؟

ونجيب هنا بلا تردد؛ إذ يخطر في الذهن بسرعة أن نصرة المؤمنين وأهل الحق النهائي إنما يكون عبر الدعم والتأييد الغيبي، ويتيسر ذلك عن طريق الإمداد السماوي.

ولكن يُطرح هنا سؤال آخر أيضاً؛ هل نصر الله للمؤمنين المجاهدين وتأييدهم يتحقق في كل حرب يخوضونها بوجه أهل الباطل؟ أهو مضمون بنحو مطلق في كل معركة لهم مع الظلمة، أم أن نصرة المؤمنين مشروط بالتزامهم بقيود خاصة تكون ملحوظة ومقصودة لدى المولى سبحانه؟

وهنا يقع البحث عن هذه الأسئلة المهمة، وعرض الإجابة عنها، تكون بما يأتي:

أن نصرة المؤمنين والمنادين بالعدل والقسط في المواجهة بين الحق والباطل إنما هو رهن الدعم الغيبي، والتأييد الإلهي، والسؤال الذي يطرح هنا هو عن طبيعة هذا الإمداد والتأييد، وما هي الصورة التي يتجلى فيها؟ وكيف يتحقق وبأي أسلوب؟

وقبل الإجابة عن السؤال المذكور وبحث الآيات التي جاءت في القرآن الكريم وتحدثت في هذا الإطار يمكن تقسيم المدد والتأييد الغيبي منه سبحانه وتعالى على نوعين وهما على النحو الآتي:

النوع الأول: مدد ودعم غيبي ذي خاصية باطنية

ويمتاز بميزة روحية ونفسية، ويتم ذلك عن طريق تدخل الباري سبحانه وتعالى في أعماق نفوس المؤمنين وأرواحهم، فتكون نفوسهم وأرواحهم على نحو تتأثر بذلك التدخل والتصرف الرباني، فيشعرون بالقوة والعزم، فيزدادون وثوقاً، واطمئناناً، وتوكلاً؛ وينبعث فيهم الأمل، وروح الانتصار والغلبة، عندها يتوقعون حالة ضعف العدو، وهوانه، وقلة حيلته أمامهم، ويعتقدون بقهرهم الحتمي له، وهذا الشعور والإحساس هو الذي سيكون مصدراً للغارة على العدو بلا رحمة، وبلا شفقة، وباعثاً للاندفاع نحوه بكل قسوة وغلظة.

ولكن في طول هذا النوع من المدد الغيبي من جهة أخرى يمكن أن يجعل الله تبارك وتعالى أيضاً نفوس الأعداء وأرواحهم تحت الضغط والتأثير على نحو تمتد يد الغيب إلى أعماقهم، فيشعرون بالرعب والخوف والقلق، وينتابهم شعور بأنهم لا شيء أمام قوة المؤمنين وبطشهم، ويخال لهم أن المسلمين هم قوة عظيمة ذات عدد كبير، وهذه الحالة النفسية ستدعوهم إلى التقهقر والتراجع وبالنتيجة الهزيمة أمام جيش المسلمين.

النوع الآخر: نوع من الإمداد والتأييد الغيبي ذو خاصية ظاهرية وخارجية

بمعنى أن الحوادث والوقائع التي تحصل في العالم خارج نطاق الروح والنفس إنما تقع على طرفين ونحوين (طبيعية وغير طبيعية)، تسهم في بلورة الأرضية المناسبة لنصرة المؤمنين وقهر الأعداء.

وفي ما يأتي نشير إلى الطرق الأساسية المتعلقة بكل واحدة من هذين النوعين في ضوء ما ورد في القرآن.

أ) أساليب الدعم الباطني والمدد الروحي

1- إلقاء الرعب في قلوب الكفار

إحدى الطرق التي استعملها الباري تعالى لدعم أهل الحق، وتأييد المؤمنين، وهزيمة الكافرين، ودحض أهل الباطل هي إلقاء الرعب، وزرع الخوف في قلوب الأعداء، فتراهم يخافون ويخشون عندما يقتربون من ساحة المواجهة، ويسري القلق والاضطراب والتشويش إلى نفوسهم، ويتربع على قلوبهم حين القتال، بحيث يفقدون السيطرة في ساحة المعركة، ولا يستطيعون الثبات أمام المسلمين، ويتمنون الفرار بدلاً من الثبات والمواجهة، ويفضلون الهروب على البقاء في ميدان الحرب.

وقد جاءت هذه الطريقة في أربعة موارد في الأقل في القرآن على نحو أصبحت موطناً لتأكيد الآيات الشريفة المتعرضة لها، فجاء الموردان الأوليان منهما على نحو وعد المسلمين بأن الرعب سيسكن قلوب العدو، وسيزرع في نفوسهم الخوف والخشية.

ومن هنا سوف تسلب منهم الشجاعة، والشهامة، والاستبسال في الحرب أمام المسلمين؛ وحينئذ ستنتهي الحرب بهزيمتهم وانكسارهم، وفي الموردين الآخرين جاء هذا الأسلوب أيضاً بالإخبار عن تأييد المؤمنين ودعمهم؛ لينتصروا على الأعداء الذين أصبحوا خائفين مرعوبين من الحرب والقتال ضد المسلمين.

وهنا سوف نمر على الآيات المباركة التي تعرضت لذلك:

قال الله سبحانه وتعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا [1].

وفي آية أخرى يبين الله سبحانه وتعالى سبب نصرة المؤمنين على هذا النحو فيقول: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [2].

كذلك يعرض القرآن الكريم ما مر على المسلمين، ويبين أن دعم السماء ومساندتها لهم هو السبب وراء نصر المسلمين وهزيمة الكفار، وذلك على النحو الآتي: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ‎* وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [3].

وفي آية كريمة أخرى يتناول ذلك أيضاً عندما يخبر عن الماضي يقول سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [4].

٢- غرس السكينة في قلوب المؤمنين

من الطرق الأخرى التي استخدمت في الدعم الباطني الغيبي للمسلمين هي أن ينزل الله سبحانه وتعالى السكينة والاطمئنان على قلوب المؤمنين ونفوسهم، ويمكن تقسيم الآيات المتعلقة بهذا الموضوع على أكثر من فئة، فبعضها تشير إلى نزول السكينة والهدوء على قلب النبي محمد المصطفى (ص)، كما في قوله سبحانه وتعالى: فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[5].

وفئة أخرى هي الآيات الكريمة التي تدل على أن السكينة والطمأنينة هبطت على قلب النبي محمد (ص) وقلوب المؤمنين معاً، من قبيل ما جاء في القرآن الكريم: ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [6].

والفئة الثالثة: هي الآيات المباركة التي تدل على أن الله سبحانه وتعالى أنزل السكينة والاطمئنان على قلوب المؤمنين فحسب، كما جاء ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [7].

 3ـ التدخل في طبيعة فهم الفريقين لصالح المؤمنين وإدراكهم

الأسلوب الثالث في الإمداد الباطني الغيبي هو أن يصوّر الله سبحانه وتعالى الكفار وجيش العدو على أنه جيش ضعيف واهن في نظر المسلمين، ويقنع المجاهدين أن المشركين مجموعة لا تعدو شيئاً أمام قوة الإسلام وجيشه، وذلك من أجل رفع الخوف والرهبة عن قلوب المسلمين.

ومن جهة أخرى يتصرف الله تبارك وتعالى في فهم الكفار وإدراكهم إزاء جيش المسلمين وقوتهم، فيظنون أنهم ضعفاء قليلون، فيقل مستوى استعداد العدو للحرب، ويردون ساحة المعركة بقليل من العدة والعدد، وفي هذا السياق يقول الله سبحانه وتعالى:

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‎*وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [8].

وفي قصة واقعة بدر رأى النبي الكريم (ص) في منامه أن عدداً قليلاً من مشركي مكة جاؤوا لقتال المسلمين، إذ إن النبي (ص) حكى هذه الرؤيا إلى المسلمين اعتقدوا أنهم سيواجهون في الواقع جيشاً قليلاً وهزيلاً، الأمر الذي زرع في قلوبهم العزم، وزاد قوتهم في المواجهة، وأعطاهم الجرأة والإقدام على القتال.

فلو كان النبي محمد (ص) قد شاهد عدد جيش العدو بحجمه الواقعي نفسه، أو أكثر من ذلك؛ لخاف المسلمون من ذلك ورعبوا، وقل مستوى إقدامهم على الحرب وزحفهم للمواجهة ولدب في نفوسهم القلق والاضطراب بسبب تفكيرهم بحجم قدرة العدو، ومستوى قوته، وبالنتيجة امتنعوا عن المشاركة في القتال، أو كانوا قد واجهوا العدو بمستوى عال من القلق والخشية والاضطراب، وعلى كل حال سينتهي الأمر بهزيمة المسلمين وخسارتهم.

من جهة أخرى إن الله سبحانه وتعالى عندما يشتد القتال يتدخل في طبيعة الفهم وتعاطي أحد الطرفين المتصارعين إزاء الآخر، كأن يتصرف في عدد المشركين في عيون المسلمين، ويقللهم في نظرهم، فيعتقدون أنهم قوة لا يعتد بها، وكذلك عدد المسلمين وحجمهم وقوتهم في فهم المشركين وإدراكهم.

ومن الطبيعي أن المسلمين لو شعروا أن جيش المشركين قليل وضعيف سيؤدي إلى قوة قلوبهم، وتزداد شجاعتهم واستبسالهم، ويواجهون العدو بمزيد من رباطة الجأش والإقدام؛ فيخوضون القتال بمعنوية عالية، ويغوصون في قلب جيش العدو؛ لذا إن المشركين عندما اعتقدوا أن عدد جيش المسلمين قليل، وحجمهم محدود أخطؤوا في تقييم القوة الحقيقة لجبهة الخصم وتشخيصها، واستهانوا بقدراتهم، ولم يستعدوا للقتال بذلك القدر الكافي، ولم يجهزوا أدوات الحرب والعدة المناسبة المواجهتهم، فدخلوا المعركة، وقاتلوا المسلمين بقوة أقل واكتفوا باستعدادات أقل حجماً؛ لذلك خسروا المعركة.

ب) أساليب الدعم الخارجي والإسناد الظاهري

بعد أن تناولنا العوامل الباطنية، والأساليب الداخلية، نعرض الآن مجموعة أخرى من الإمدادات الغيبية الإلهية التي تحمل طابعاً خارجياً وظاهرياً، وهي التي يمكن تقسيمها على فئتين هما عوامل الطبيعة وعوامل ما فوق الطبيعة، وفي ما يأتي نتعرض إجمالاً إلى كل واحدة من هاتين الفئتين واحدة تلو الأخرى فنقول:

1- الإمدادات الغيبية الطبيعية

وهذا اللون من الدعم والإسناد ذكره القرآن في أقل تقدير بعاملين اثنين، الأول العامل الطبيعي بصورة الطوفان والريح العاتية، وقد كان هذا العامل سبباً في نصرة المسلمين وغلبتهم في بعض المعارك والحروب، وفي مقابل ذلك هزيمة الكفار وانكسارهم، وفي هذا السياق يقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [9].

وتشير هذه الآية الكريمة إلى معركة الأحزاب، إذ كان الطوفان والريح يعدان من جملة الأسباب المهمة لتحقيق النصر للمسلمين، وأشارت هذه الآية أيضاً إلى بعث الجنود غير المرئيين وهو دعم غيبي آخر وهو شاهد على بحثنا الحاضر أيضاً.

ولكن ربما يكون المقصود من هؤلاء الجنود في هذه الآية هي الريح العاتية التي أرسلها الله تبارك وتعالى على الرغم من أن الريح أمر محسوس، ولكن كونها بعنوان القوة الإلهية ونوع من المدد والدعم الغيبي من الله تعالى، فهو أمر مجهول في ما يخص الناس، وغير محسوس في ما يخص البشر.

العامل الطبيعي الثاني الذي سخره الله سبحانه وتعالى نصرة المؤمنين وإعانتهم على النصر في الحرب، هو المطر الذي ذكره القرآن الكريم أيضاً، لذلك يقول تبارك وتعالى بهذا الخصوص: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ [10].

تشير هذه الآية المباركة إلى ما جرى في واقعة بدر، ففي الليلة التي وقعت في نهارها معركة بدر بين المسلمين وكفرة قريش هطلت أمطار الرحمة الإلهية، فأصبحت الأرض تحت أقدام جيش الإسلام ندية رطبة، واستحكمت أجزاؤها على نحو يمكنهم من التحرك والمناورة بسهولة، وممارسة مهارتهم القتالية بيسر، وبعد نزول ذلك المطر ذهب كل الغبار وولت جميع الأتربة الكثيفة التي يمكن أن تعيقهم عن القتال، وتزعجهم في المعركة،

والخلاصة: إن رذاذ المطر في تلك الليلة التاريخية كان معيناً ومفيداً للمسلمين جداً، وكان جديراً هو الآخر أن يقدم المساعدة والدعم للمسلمين؛ بل كان سبباً في نصرة المؤمنين بالمعركة، في مقابل ذلك كان المطر الذي هطل في ساحة العدو، والأرض التي استقر فيها كان مطراً غزيراً على نحو أصبحت الأرض تحت أقدامهم طيناً، الأمر الذي أعاق تحركات جيش العدو والمقاتلين في صفوفه، وحد من مناوراتهم في القتال، فكان ذلك سبباً في هزيمتهم وخسارتهم في المعركة.

2- الدعم والإمداد غير الطبيعي

فقد أشار القرآن الكريم إلى عاملين: أحدهما: الجنود غير المرئيين؛ والآخر: الملائكة.

ومما لاشك فيه أن وجود غير الملائكة من الجنود المخفيين هو أمر ممكن جداً، ولكن الاحتمال الأقوى هنا هو أن هذين العنوانين وهما الجنود غير المرئيين والملائكة يعودان إلى مصداق خارجي واحد، وحينئذ يكون المقصود من الجنود غير المرئيين هم الملائكة أنفسهم.

يقول تعالى في ما يتعلق بالجنود غير المرئيين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‎* إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ‎* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا[11].

ويحتمل قوياً أن المراد من هذه الآية المباركة هو ما أشرنا إليه آنفا؛ وهو أن المقصود من الجنود غير المرئيين هم الملائكة، وهناك احتمال آخر مر ذكره في ما تقدم أيضاً؛ وهو أن المراد من الجنود المستترين هو نفس الريح والطوفان الذي أرسله الله تعالى، حيث أشرنا سابقاً إلى أن الريح وإن كانت أمراً محسوساً؛ ولكن كونها مرسلة ومبعوثة منه تعالى وأنها وسيلة للمدد والدعم الإلهي لهزيمة الأعداء أمر مجهول وغير محسوس في ما يخص البشر.

وفي آية كريمة أخرى يقول الله تعالى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [12].

وعلى أية حال إن ما ذكر من الآية الشريفة حتى الآن لم يتم التعرض فيه إلى فحوى طبيعة أولئك الجنود المستترين وهويتهم؛ أهم من الملائكة أم لا؟ لم يتعين إذا حتى الآن مصداق واضح ومحدد من خلال هذه الآيات لهؤلاء الجنود.

ولكن هناك فئة من هذه الآيات المتعلقة ببيان سبل المدد والدعم الغيبي لله سبحانه وتعالى تحدثت بصراحة عن الملائكة، وبينت حتى عددها الذي شارك في القتال، وذلك من قبيل قوله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‎* إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‎* لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ[13].

وهذه الآيات المباركة مرتبطة بمعركة بدر وهي أول حرب خاضها المسلمون ضد المشركين في الوقت الذي كان فيه المسلمون قد بدؤوا بتشكيل النواة الأولى للمجتمع الإسلامي، وكانوا من حيث العدة والعدد في أضعف حالاتهم وأسوئها، حتى أن القرآن عبر عن هذا الوضع بـ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ مشيراً بذلك إلى هذا الموضوع، من هنا كان المسلمون قليلين؛ إذ كيف يمكنهم مع هذا المستوى من الضعف العسكري أن يهزموا جيش الكفر، وهو بهذا الاستعداد والقوة.

وكلما شاهدوا عُدّة ذلك الجيش وعددهم، والتجهيزات ازداد ذلك الاضطراب والقلق أكثر؛ لأنهم عندما ينظرون إلى عددهم، فيرونهم أكثر منهم بثلاث مرات تقريباً، لذلك أرسل الله سبحانه وتعالى إلى نبيه الكريم وحياً يخبره من خلاله أننا بعثنا ثلاثة آلاف من الملائكة؛ لدعمكم وتأييدكم، ولو كان الأمر يستدعي عدداً أكبر من الملائكة لبعثنا أيضاً، وفي النهاية إن الحرب انتهت بالنصر المؤزر لجيش المؤمنين المجاهدين، وقرت أعين المسلمين بهزيمة أعدائهم بمساعدة هذه المجموعة من الملائكة ودعمهم.

ويمضي الباري تعالى في بيان حقيقة هذا الدعم الغيبي للمسلمين، فيبين أن نصرة المؤمنين التي منحها الله لعباده الصالحين إنما هي نتيجة صبر المسلمين وثباتهم وتقواهم، والنقطة المهمة هنا هي أن شرط الدعم الغيبي، ولازم تحقق المدد الإلهي هو جلد المسلمين وصبرهم ورعايتهم للتقوى، فعندما يتحقق هذا الشرط، فإن الله تعالى وفي ضوء الحكمة الإلهية والمصلحة التي تقتضيها، سوف لا يخذلهم في الدعم والإسناد.

النكتة الأخرى التي أشارت إليها الآية هي موضوع التوحيد الأفعالي، إذ يبين الله تعالى فيها وعلى الرغم مما يظهر من أن هؤلاء الذين جاؤوا لنصرة المؤمنين وتأييدهم، وانتهى القتال بسبب هذا الدعم والتأييد لصالح جيش الإسلام، كانوا ملائكة، ولكن ينبغي لفت النظر الى أن إسناد هؤلاء الملائكة لم يأت إلا بعدما أمرهم الله سبحانه وتعالى بذلك فهم إنما جاؤوا من قبله تعالى فحسب، وأن دعم الملائكة بهذا النحو لا ينبغي أن يكون سبباً لغفلة المؤمنين وسهوهم عن هذا الأمر.

وهو أن المسبب الرئيسي، والداعم الحقيقي لهم هو الله سبحانه وتعالى، أي إن نصرة الجيش المسلم أو دعمه، أو تأييده إنما يصدر في الحقيقية منه تعالى وبيده جلت قدرته، وعليه يجب أن يتنبهوا إلى نقطه أساسية وهي الذات الإلهية المقدسة فقط، وطالما أكد القرآن هذه النقطة في مواطن عديدة، ونبه عليها أكثر من مرة، حتى لا ينسى الإنسان أو يغفل عن أصل التوحيد، وتكون هذه الحقيقة حاضرة في ذهنه دائماً، وحتى يدرك جيداً أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله تبارك وتعالى.

ومن الطبيعي أن يجري هذا التأثير في الحرب أيضاً، إذاً لا يوجد داعم حقيقي فيها سواه سبحانه، وما الملائكة إلا مخلوقات مأمورة لما يريده هو ويؤمر به، وليس لهم أي استقلالية في التأثير لا في نصر المسلمين وتأييدهم ولا في مكان آخر.

الاستنتاج

أن الله سبحانه وتعالى وعد في القرآن الكريم بنصرة المؤمنين في الحرب من خلال الدعم الإلهي والتأييد الغيبي، وأن هذا الدعم الغيبي مرة يكون ذي خاصية باطنية ويمتاز بميزة روحية ونفسية، كإلقاء الرعب في قلوب الكفار، وغرس السكينة في قلوب المؤمنين، ومرة يكون ذا خاصية ظاهرية وخارجية،  كالإمدادات الغيبية الطبيعية، وغير الطبيعية.

الهوامش

[1] آل عمران، ١٥١.

[2] الأنفال، ۱۲.

[3] الأحزاب، ٢٥ – ٢٧.

[4] الحشر، ٢.

[5] التوبة، ٤٠.

[6] التوبة، ٢٦.

[7] الفتح، ۱۸.

[8] الأنفال، ٤٣ – ٤٤.

[9] الأحزاب، ۹ – ۱۰.

[10]  الأنفال، ۱۱.

[11] الأحزاب، ۹ – ۱۱.

[12] التوبة، ٢٥ – ٢٦.

[13] آل عمران، ۱۲۳ – ۱۲۷.

[14] الأنفال، ۹ – ۱۰.

[15]  الأنفال، 12.

مصدر المقالة (مع تصرف)

مصباح اليزدي، محمّد تقي، الحرب والجهاد في القرآن الكريم، بغداد، مؤسّسة العرفان للثقافة الإسلامية، الطبعة الأُولى، 1436 ه‍، ص223 ـ ص238.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *