تشابه الإمام المهدي (ع) مع الملك ذي القرنين

تشابه الإمام المهدي (ع) مع الملك ذي القرنين

2025-02-16

95 بازدید

هل هناك أوجه تشابه بين ظاهرة الإمام المهدي (ع) وظاهرة الملك الصالح ذي القرنين؟ الذي أعطي القدرة والعلم الدني والغلبة والاستيلاء والتمكين في الأرض، وتطبيق شرائع الأنبياء التي هي شرائع إلهية، هذا ما سيتضح من خلال البحث التالي:

ذو القرنين ملك صالح

إنَّ ذا القرنين كالنبيّ سليمان هما مَلِكان قد أوعز إليهما وفوّض إليهما ومُكّنا من قبل الله تعالى ونصّبا للحكم العامّ الشامل في أرجاء الكرة الأرضية، كما ورد في الروايات أنَّ أربعة من الملوك حكموا غالب أرجاء الكرة الأرضية، اثنان صالحان وهما الملك سليمان وقبله ذو القرنين، واثنان طالحان وهما نمرود وبختنصر.

عرَّف القرآن ذا القرنين بأنَّه عبد مصطفى ولم يكن نبيّاً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ[1]، فهو تمكين إلهي وقدرة تفوق قدرات الأسباب الطبيعية في البشر، بل هي بأسباب طبيعية، ولكن هذه الأسباب الطبيعية لا يمكن للقدرة البشرية تناوله، وإنَّما هي بتمكين فقط من الله تعالى.

الطبيعة البشرية فيها أسباب ولكن هذه الأسباب لا يمكن نيلها بتمامها أو بجملة مهمّة إلاَّ بتمكين من الله، كما ورد في الخضر: آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا[2]، أي هنا تمكين إيتائي ولدنّي من الله، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ، وهذا التمكين تمكين خاصّ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا[3]، إيتاء لدنّي، كما أنَّ في القرآن بياناً واضحاً أنَّ هناك غير مقام النبوّة ومقام الرسالة، هناك مقام صاحب العلم اللدنّي، وهو صاحب تأويل كما في الخضر، وهنا صاحب تمكين في الأرض وقدرة وولاية تكوينية.

وهناك قدرة علمية خاصّة لدنّية، كما أنَّ هناك قدرة تكوينية خاصّة لدنّية من الله، وهذا مقام آخر يستعرضه لنا القرآن، هذا المقام ليس مقام نبوّة ولا رسالة، وإنَّما مقام الملك والإمامة في الأرض، بأن يمكّن الإمام والخليفة في الأرض، من القدرة التي تتقاصر وتعجز عنها وعن التطاول إليها القدرة البشرية مهما تقدَّمت ومضت قدماً في الحضارة والتمدّن.

بعد ذلك يعرّفنا القرآن: فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا، خطاب من الله تعالى إلى ذي القرنين، يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا[4].

هنا حوار خاصّ بين الباري وذي القرنين، مع أنَّ القرآن لم يعرّف لنا ذا القرنين بأنَّه نبيّ ولا رسول، ولكنَّه وليّ مصطفى ومجتبى قد مُكّن واختير واصطفي لمقام الإمامة والخلافة في الأرض، الملك ملك التدبير والتصرّف، وهو إمام ومستخلف في الأرض وأحد مصاديق سُنّة الله.

تصل سورة الكهف إلى ظاهرة ذي القرنين حيث تمثّل نهاية المطاف لحفظ بقاء الدين من ظهور الملك الإلهي والخلافة الإلهية بشكل مكشوف وعلني على أرجاء الأرض كافّة، وهو ظهور الإمام المهدي (ع)، فصحَّ إذن أنَّ هذه الضمانات الأربعة، سيّما الرابعة كمثل ضربه الله للإمام المهدي (ع)، وهو غلبة واستيلاء وتمكين ذي القرنين في الأرض.

ومن ثَمَّ ورد في روايات أهل البيت أنَّ ذا القرنين أوتي السحاب، وأنَّ الإمام المهدي (ع) يؤتى ذلك أيضاً، إلاَّ أنَّ الأسباب الأكثر قوّة ونفوذاً أخّرت للإمام المهدي (ع)، والنمط النازل المتوسّط من الأسباب، طبعاً هي فوق قدرة البشر، لكن من الأسباب اللدنّية أعطيت لذي القرنين، فأوّل مجتمع واجهه ذو القرنين وانخرط فيه: وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا[5].

هذا الحوار والخطاب الإلهي مع ذي القرنين ليس مفاده وحي شريعة ولا وحي رسالة، ولكنَّه وحي من علم لدنّي للتدبير في الأرض، كما في الخضر، إذن فهذا العلم اللدنّي الذي أعطاه الله للخضر، كذلك إعطاء الإيتاء اللدنّي لذي القرنين يؤهّل أن يكون هناك ارتباط بين الخضر وذي القرنين بوحي علم لدنّي، وليست هذه القناة نبويّة ولا قناة رسالة، وإنَّما ارتباط إمامة ووحي لدنّي.

هذه الظاهرة صريحة في القرآن، أنَّ هناك أولياء لله أصفياء مصطفون نصَّبهم الله حججاً وأئمّة للخلق مزوَّدون بالعلم اللدنّي، أو بإيتاء الأسباب، يوحي إليهم ليس وحي شريعة ولا وحي رسالة ولا وحي نبوّة، وإنَّما يوحي إليهم العلم اللدنّي، يطلعون عبره على إرادات الله وأوامره الخاصّة التفصيلية في تدبير الأرض وفي تطبيق شرائع الأنبياء التي هي شرائع إلهية.

وإنَّما استعرض القرآن هذه الحقيقة لحِكم ومغازي عديدة، منها تبيان أنَّ بقاء هذا الدين وحفظه سيكلّل في النهاية إلى ظهور المصلح الإلهي المزوَّد بالتمكين من السماء والمزوَّد بأسباب القدرة التكوينية بإيتاء من الباري تعالى، وهذا طبعاً مغزى وغاية مهمّة لاستعراض ظاهرة ذي القرنين في سورة الكهف في حفظ وبقاء الدين، وإظهار الدين على أرجاء الأرض كافّة.

فالتشابه كبير بين الوعد الإلهي كوعد قطعه الله تعالى على نفسه بإظهار هذا الدين وتمكين هذا الدين، وبين ما تستعرضه سورة الكهف في أوّل مطلع الآيات؟ فهناك الوجل حول حفظ وبقاء هذا الدين فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا، وتذكر أيضاً أنَّ خاتمة الضمانات لبقاء حفظ الدين هي ظاهرة ذي القرنين، يعني أنَّ الدين يحفظ بمجيء شخص نظير ذي القرنين يمكّنه الله ويعطيه أسباب القدرة والنفوذ، ومن ثَمَّ سيعمر أرجاء الأرض كافّة بإظهار ونشر هذا الدين الحنيف، هذا مغزى مهمّ وعظيم.

ومغزى آخر من استعراض ظاهرة ذي القرنين وهو أنَّ الذي يمكّنه الله تمكيناً لدنّياً، ويؤتيه من أسباب القدرة إيتاءاً لدنّياً يكون متّصلاً بالغيب، يكون لديه سبب متّصل، قناة اتّصال مع الله تعالى، ليس هذه القناة نبوّة ولا رسالة.

ومن ثَمَّ ينقل لنا القرآن حواراً ليس حوار وحي نبوّة ولا وحي رسالة، وإنَّما ينقل لنا وحي برامج إلهية لتدبير الأرض وقيادة الأرض، أي برامج الإمامة الإلهية في منصب ذي القرنين، حيث يقول القرآن: قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ‎* قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ[6].

فهنا إذن حوار إلهي وَحْياني بين الباري تعالى وبين ذي القرنين؛ لأنَّه استخلف في الأرض وجُعل خليفة يدبّر ويقود الأرض، وأوتي القدرة اللدنّية من الله الإيتائية وليست الاكتسابية، هذا المقام يؤهّله لأن يطَّلع على الإرادة الإلهية التفصيلية الخاصّة في التدبير وفي الحكم السياسي والقضائي والتنفيذي.

التوحيد والحاكمية السياسية في مدرسة أهل البيت

إنَّها حقّاً الملحمة عظيمة أن يشاهد المسلم والمؤمن من يتشدَّد في عقيدة التوحيد، ورغم ذلك لا يستطيع أن يرسم لوناً من التوحيد في الحاكمية السياسية لله تعالى، بينما نجد هذا اللون المركَّز في التوحيد في حاكمية الله في الحقيقة في مدرسة أهل البيت (ع)، حيث نجد إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للهِ.

أنَّ الحاكمية السياسية أو الحاكم السياسي الأوّل هو الله تعالى، عبر ما ينزّله من إرادات وأوامر خاصّة تنفيذية وتطبيقية للإمام المعصوم، حيث يزوَّد بالعلم اللدنّي، ففي الحقيقة هذا اللون المركَّز من التوحيد لا نجده في المدارس الإسلاميّة الأخرى غير مدرسة أهل البيت التي تشدّد وتؤكّد على أنَّ الإمام يجب أن يكون منصوباً من قِبَل الله لكي يكون سفيراً لله في خلقه، لا سفارة نبوّة ولا سفارة رسالة، وإنَّما سفارة إمامة وسفارة إبلاغ البشر والإقامة في البشر، لإرادات الله السياسية وإرادات الله القضائية.

هذا توحيد لله في الولاية، وهذا ما تسلّط الضوء عليه بشكل مركَّز ظاهرة ذي القرنين في سورة الكهف، إذ يتلقّى إرادات الله السياسية: قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا[7].

إذن لا يفتأ القرآن يصرّح أنَّ لله تعالى إرادات سياسية غير الإرادات العامّة التشريعية وهي مغايرة علم الخضر وعلم النبيّ موسى، مغايرة الإمامة الإلهية عن النبوّة والرسالة واللتان اجتمعتا في النبي محمد المصطفى (ص).

هذه الإرادات التفصيلية تتنزَّل على من ينصبه الله تعالى إماماً في الأرض وخليفة له يستخلفه لتدبير المجتمعات ولنظم المجتمعات، أين هذا الركن العقائدي؟ أين هذه الحقيقة العقائدية القرآنية في مذاهب المسلمين؟ لا نجدها إلاَّ في مدرسة أهل البيت (ع).

فظاهرة ذي القرنين في سورة الكهف تبيّن لنا أنَّ الإمام الذي يمكّنه الله لإظهار الدين على أرجاء الأرض كافّة ويملأها قسطاً وعدلا، هذا يؤهّل لأن يكون بينه وبين الله قناة ارتباط ليست قناة نبويّة ولا قناة رسالة، ولكن قناة تؤهّله لأن يعلم وأن يتزوَّد وأن يتلقّى إرادات الله السياسية في تدبير الباري تعالى لنظام البشر الاجتماعي، وهي إرادات سياسية، وهذا لون من التوحيد في الحاكمية السياسية.

نعم، بعد ذلك تواصل لنا ظاهرة ذي القرنين في الآيات، فتبيّن لنا ملامح واضحة بأنَّ الإمام كالإمام المهدي الذي يصطفيه الله لنشر الدين على أرجاء الأرض كافّة ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً يتحقَّق على يديه إنجاز الوعد الإلهي لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ[8]، وكما بدأ من بيت النبوّة وأهل البيت، وبعدما وقف انتشاره فإنَّه ينتشر مرَّة أخرى على يد أهل البيت أيضاً.

ولو كانت الأمور بيد أهل البيت لتمَّ إنجاز هذا الوعد الإلهي سريع، ولكن سوء تصرّف الأمّة أخَّر إنجاز هذا الوعد على يد ابنهم المهدي، فهذا الإمام الذي ينجز الله على يده هذا الوعد الإلهي ويمكّنه في أرجاء الأرض يكون كذي القرنين بينه وبين الباري تعالى ارتباط يؤهّله أن يخاطبه الربّ لا بوحي نبوّة ولا بوحي رسالة ولا بوحي شريعة جديدة والعياذ بالله، كلاَّ وإنَّما هي نفس الشريعة المحمّدية الخالدة.

ولكن لتطبيقها ولتطبيق هذا الدستور وهذه الشريعة الخالدة العظيمة على صعيد الحكومة التنفيذية فإنَّه يحتاج إلى إرادات تفصيلية من الله تعالى في المنعطفات الخطيرة المهمّة، بأن يخاطب (قلنا: يا مهدي) كما يخاطب ذو القرنين في قول الله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ، فأيضاً يخاطب الإمام المهدي (ع) في إمامته وفي حكومته بذلك.

ثم تقول الآية: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا[9]، هذه محطّة مهمّة أخرى في الغاية تبيّنها لنا ظاهرة ذي القرنين.

وبعد ذلك تطالعنا هذه الآيات حول ظاهرة ذي القرنين، إنَّها محطّة أخرى مهمّة في الإمامة، وهي _ في الواقع _ حول إمامة الإمام المهدي وغيبته وظهوره، وحول إمامة أئمّة أهل البيت (ع)، أيضاً يقول الباري تعالى في شأن ذي القرنين: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ[10]، فها هو يردع الفساد.

الخليفة في الأرض والإمام كما في سورة البقرة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، هو سُنّة إلهية دائمة، قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ[11].

يعني الخليفة يصدّ ما اعترضت به الملائكة من أنَّه يحول بينه وبين الإفساد في الأرض، فيكون سدّاً حائلاً عن قطع النسل البشري، فذو القرنين الذي هو خليفة في الأرض يخوض في المجتمعات لقطع مادة الفساد في الأرض، قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ، مع كون ذي القرنين أوتي الأسباب اللدنّية من الله والتمكين في الأرض، مع ذلك يقول: فَأَعِينُونِي، فأعينوني بماذا؟ بِقُوَّةٍ، ويقول: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ، ويقول: انفُخُوا، ويقول: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا، ماذا يدلُّ استمداد العون من البشر؟

هذا المطلب يدلُّ بوضوح على أنَّ من يجعله الله إماماً للناس من قبله وخليفة في الأرض لا يعني ذلك أنَّه جبر (كن فيكون) في إصلاح الأرض وإقامة الإصلاح ودرء الفساد، ولا هو تفويض للناس، وإنَّما هي نفس نظرية القرآن (أمر بين أمرين) في الإصلاح الاجتماعي وفي حكومة المجتمع.

فليست الحكومة الإلهية على البشر، والحكومة السياسية الإلهية الدينية على البشر جبراً وإلجاء، ولا تفويضاً للبشر، ولا استبداداً إلهي، ولا هو تفويض مطلق بشيء، إنَّما هو طريق وسط في رائعة التصوير الإمتحاني، وهي صورة ذات جمال خلاّب تحافظ على إرادة البشرية في الحركة الحيوية، وتحافظ على عناية السماء وهداية السماء ولطفها بالبشر في نظرية الاختيار والامتحان في الإصلاح وإقامة الحكم السياسي، وهذه هي نظرية وعقيدة مدرسة أهل البيت، عقدية أصلية من متن القرآن.

فالإمامة الإلهية والخليفة من قبل الله عندما يريد أن يقيم الإصلاح ودرء الفساد في الأرض لا بدَّ له من إعانة البشر بقوّة، وحينئذٍ يتمكَّن مع ما زوّد بأسباب لدنية، وهذا أمر ملحمي مهمّ في عقيدتنا بالإمام المهدي وغيبته وظهوره، إذ أنَّ وعد الله تعالى بإنجاز وإظهار هذا الدين ومَلء الأرض قسطاً وعدلاً على يدي الإمام المهدي لا يعني إلجاء البشر، بل لا بدَّ أنَّ تقوم البشرية بدور ما من الإعانة لوليّ الله وللإمام، سواء في غيبته يعني في غيبة الخفاء فيما يقوم به من أدوار فيجب على المؤمنين أن يقوموا بمسؤوليتهم تجاه منهاج الحقّ وتجاه منهاج الرسالة، لا بدَّ أن يقوموا بمسؤوليتهم في الإعانة بقوّة.

كيفية الخفاء والاستتار مع المحافظة على الدين

الإمامة باقية إلى يوم القيامة، وهي في عدد الاثني عشر كما أوضحه القرآن في جملة من الآيات التي استعرضها، كقوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا[12]، هي بعثة إلهية إذن، هذه الإمامة هي نقابة إلهية وقيادة إلهية للمجتمعات وسُنّة قرآنية أصيلة.

العقيدة بهذه الإمامة الإلهية وهذا المقام الإلهي تشرحه لنا سورة الكهف، بأنَّ قيام الإمام والخليفة بأدواره لا ينحصر بالحكومة الرسمية المعلنة، وهذا الأمر الذي ينبغي أن تركّز الإضاءة عليه هنا؛ لأنَّ سورة الكهف تنبئنا عن وجود الخليفة كضمانة ثانية ذكرتها في الترتيب للوجل حول بقاء الدين: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا.

فهي تعطينا قاعدة عقائدية مهمّة جدَّاً في الإمام، وهي أنَّ الإمامة لها أذرع وأشكال وصور عديدة من الحكومة، يتصرَّف فيها فيما استخلفه الله في إدارة البشر والحيلولة عن الفساد وقطع النسل البشري، وبطبيعة الحال على درجات، سقف نازل، وسقف أعلى، وسقف متوسّط، نعم السقف الأعلى عند الامتلاء عندما يظهر الله الإمام المهدي ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهذه معلومة علمية منظورة متمدّنة ينبئنا بها القرآن في أشكال الحكومة.

وهذا ما يجب أن ينتبه إليه المسلمون في قراءتهم لسورة الكهف، فهو أمر مهمّ _ وللأسف _ مغيَّب في ثقافة المسلمين بالنحو العقدي، ولربَّما إن لم يكن مغيَّباً لديهم فثقافتهم عنه سطحية في أمورهم العادية والمعتادة من أنَّ الحكومة التي يقودها خليفة الله والإمام في الأرض من قبل الله ليست حكومة ذات شكل وصورة واحدة، بل هي ذات كيانات متعدّدة، فللإمام والخليفة في الأرض عدّة أساليب في الحكم، منها الحكومة الخفية والمستترة بأعضائها وكياناتها.

وهذا أمر بالغ الأهمّية يجب على عموم المسلمين والمؤمنين الالتفات إليه، من هذا البيان الناصع العقائدي الذي تطلعنا عليه سورة الكهف، أنَّ الخليفة في الأرض والإمام الذي يستخلف من قبل الله تعالى له أنماط من الأدوار وله أساليب متنوّعة ومتعدّدة وعلى درجات مختلفة، وله أيضاً أجهزة وليس جهازاً واحداً لحكومات وليست حكومة واحدة، فالحكومة المعلنة على المكشوف البادية بأعضائها ومرافقها وكياناته، تلك تمثّل فقط أحد أساليب الحكومة والحكم، نظير ما لـ (ذي القرنين)، وهو نظير ما يكون للإمام المهدي (ع) عند الظهور.

ونظير ما كان لأمير المؤمنين (ع) بعد أن بويع وانشدَّت إليه قاعدة عموم المسلمين، وكانت بيعته بيعة فريدة في تاريخ الإسلام، فعدا البيعة التي حصلت للنبيّ (ص) لم تحصل بيعة بهذا الوفور وبهذه السعة في القاعدة الشعبية الإسلاميّة كما حصلت لأمير المؤمنين، وكما حصلت للإمام الحسن (ع)، وكما حصلت في مبايعة أهل العراق وبعض أهل الشام وأهالي الحرمين للإمام الحسين (ع) طواعية بلا جبر ولا فلتة ولا انتهاز فرصة ولا ما شابه ذلك.

هذه البيعة التي حصلت لأئمّة أهل البيت والحكومة الظاهرية، هي في الحقيقة إحدى أساليب الحكم، وإحدى أجهزة الحكم، وإلاَّ فإنَّ هناك أيضاً جهاز حكم آخر وحكومة أخرى من الحكومة استعرضته أيضاً سورة الكهف، وهي ظاهرة الخضر.

فلكلّ عنصر من هذه المجموعة العبادية دوائر بشرية تقوم بأدوار اختراق النظم، وإرساء العدالة، تلك المجموعات البشرية التي هي جهاز إلهي خفي مستتر وسرّي.

أنواع الحكومة الخفية والمعلنة

هناك جملة من الآيات فيها بيانات مختلفة دالّة على أنَّ دولة الحقّ تكون في آخر الزمان، مثلاً التعبير القرآني: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ[13]، فيدلُّ هذا التعبير القرآني على أنَّ المستضعفين هم من أهل الحق، هؤلاء يكونون وارثين، أي في مآل الأمر وعاقبته تكون دولتهم التي يظهرهم الله ويمكّنهم فيه.

والتعبير القرآني الوارد بكثرة: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[14]، فالتعبير بالوارثين يدلُّ على أنَّه ستكون الأرض للصالحين في نهاية المطاف والمآل والخاتمة، وكذلك ما ورد في سورة الأعراف: إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[15].

وهذا العنوان: وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، والتوريث الإلهي للمتّقين في العاقبة ورد متواتراً في آيات القرآن، في العاقبة للتقوى، فالعاقبة يعني المآل والخاتمة، وكذلك في آيات أخرى يحدّثنا القرآن، ويدلّل مثلاً أنَّ عاقبة المفسدين والظالمين والمكذّبين مقطوعة، أي ليست نهاية الأمر لهم: وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ[16]، فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ[17]، أي إنَّ دابرهم مقطوع وأنَّه ليس لهم مآل ولا خاتمة في الفترات المتوسّطة.

فدائماً العاقبة تكون بيد أهل الحقّ، أمَّا الفترات المتوسّطة بيد المكذّبين، كما يبيّن لنا: فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذَّبِينَ[18]، العاقبة تكون للصادقين، ويقطع دابر المكذّبين للفترات المتوسّطة بعد الأنبياء، فالأنبياء هم ظاهرة الحقّ ومسار الحقّ، وتتوسَّط ما بعدهم من الفترات تغلّب المفسدين حسب ما يبيّن لنا القرآن، لكن العاقبة تكون في نهاية المطاف للمتّقين.

فإذن كون دولة الحقّ في أمم الأنبياء هي في آخر عمر الأمم التابعة للأنبياء بات أمراً واضحاً ناصعاً بشكل لا تلابسه ريبة في الهداية القرآنية، وهذا ممَّا يدلّل على أنَّ أحد الحجج من أئمّة أهل البيت (ع) ـ وهو الإمام المهدي ـ الذين استضعفوا واُزووا من مراكز القدرة المعلنة ومقاماتهم ورتبهم التي رتَّبهم الله تعالى وجعلها لهم، ستكون العاقبة لهم ولدولتهم في آخر الزمان: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ[19].

وكما أنَّ لحكومة أولياء الله أنماطاً مختلفة حيث ذكرنا النمط المعلن والخفي، فهناك نمط ثالث وهو أسلوب بناء التيّار الاجتماعي، وهو أسلوب متوسّط، لا هو أسلوب معلن مكشوف على الظاهر كالحكومات الرسمية، ولا هو خفي سرّي، بل هو متوسّط، وهناك أنماط أخرى في كيفية النفوذ والحكومة والقدرة يستعرضها لنا القرآن لخليفة الله في الأرض، وهذه ثلاثة نماذج ذكرتها سورة الكهف.

بل إنَّ سورة الكهف ذكرت نموذجاً رابعاً لحكومة وليّ الله وخليفة الله في الأرض، وهو طاعة جميع الملائكة لخليفة الله، كما ذكرت ذلك سورة البقرة وسور قرآنية أخرى، أمَّا النبيّ والرسول في مقام النبوّة والرسالة فهذا مقام لا يكفل طاعة جميع الملائكة كما ينبئنا القرآن، وإنَّما هذه الخصيصة وهذه القدرة في ملكوت السماوات والأرض من شؤون وصلاحيات مقام الإمام سواء أكان نبيّاً ورسولاً أيضاً أم لا.

كما ينبئنا عن ذلك القرآن في سور عديدة، فمن شؤون وصلاحيات جعل الخليفة في الأرض أن يطلع الله جميع الملائكة المقرَّبين في السماوات والأرضين على طاعة خليفة الله في الأرض، وهو إنَّما ذكر في آدم، لأنَّه نموذج لأوّل السلسلة وليس منحصراً بآدم، وإنَّما إطاعة الملائكة لآدم بما هو متقلّد مقام الخلافة الإلهية.

إذن هذا من شؤون مقام الخلافة الإلهية، وهذا نمط من القدرة والحكومة الملكوتية، وهو نمط رابع تذكره سورة الكهف، وهذا النمط ليس فيه فتور، وليس فيه إقبال وإدبار، وليس فيه انقطاع، وليس فيه جزر ومدّ، بل دائم آبد، فتدلّل لنا سورة الكهف على أنَّ الإمامة والخلافة الإلهية لها أنماط مختلفة عن أنماط القدرة والحكومة والحكم، وليس فقط الحكومة المعلنة المكشوفة هي الأسلوب الوحيد لمقام الخليفة والإمام من قبل الله للقيام بأدواره في النظام البشري.

الاستنتاج

أن هناك تشابه بين الإمام المهدي (ع) وبين ذي القرنين من ناحية القدرة والعلم الدني والغلبة والاستيلاء والتمكين في الأرض، وإظهار الدين على أرجاء الأرض كافّة، وأنه يملأها قسطاً وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

الهوامش

[1] الكهف، 84.
[2] الكهف، 65.
[3] الكهف، 84.
[4] الكهف، 85 و86.
[5] الكهف، 86.
[6] الكهف، 86 و87.
[7] الكهف، 86.
[8] الفتح، 28.
[9] الكهف، 95 و96.
[10] الكهف، 94.
[11] البقرة، 30.
[12] المائدة، 12.
[13] القصص، 5 و6.
[14] الأنبياء، 105.
[15] الأعراف، 128.
[16]  الأعراف، 86.
[17] يونس، 39.
[18] آل عمران، 137.
[19] التوبة، 33.

مصدر المقالة (مع تصرف)

السند، محمّد، الإمام المهدي (ع) والظواهر القرآنية، تحقيق مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (ع)، النجف، بقية العترة، الطبعة الثالثة، 1444 ه‍، ص233 ـ ص251.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *