حملة جيش أبرهة على الكعبة المشرفة عبرة لمن يعتبر

حملة جيش أبرهة على الكعبة المشرفة عبرة لمن يعتبر

کپی کردن لینک

من ديدن الملوك الظلمة والجبابرة التكبر والغطرسة لأجل رغد العيش الذي أعطاهم الله تعالى، فتراهم على مر التاريخ يستضعفون طائفة ويقتلون طائفة أخرى ظلما وجورا. في تاريخ الأمم، تظهر دائمًا نماذج من الحكام الذين استغلوا سلطتهم في ظلم الآخرين وتفريق الأمة، وكان من أشهر هؤلاء الملوك الظلمة أبرهة، الذي حكم اليمن في زمن مضى. يعكس هذا المتن طبيعة الملوك الجبابرة، ومن بينهم أبرهة، الذي اتسم بالطغيان والتكبر، كما هو غالب على طباع بعض الحكام الطغاة عبر التاريخ.

إن أبرهة، كغيره من الجبابرة، استمد سلطته من رغد العيش الذي وفره الله لهم، ومنحه القدرة على الاستضعاف وقتل الطوائف ظلما وعدوانا. فملك أبرهة لم يكن إلا نسخة من ملوك الطغاة الذين سبقوه، كالفراعنة وغيرهم من الملوك الذين استبدوا بالحكم وسادوا بقوة السيف والجبروت. ففي شخص أبرهة تجسد صورة الحاكم الظالم الذي أدى به طغيانه إلى ارتكاب أبشع أفعال، أخطر منها نيته هدم الكعبة المشرفة، الفعل الذي أدى إلى هلاكه هو ومَن معه من الجيوش. وهذا يجعل قصة أبرهة عبرة لكل من يسعى للسلطة على حساب الحق والعدل.

قال تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ {أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (*) أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (*) وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (*) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (*) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُول}.[1]

وإنّ لكم في القرون الماضية لعبرة

ذو نواس ملك اليمن اضطهد نصارى نجران قرب اليمن كي يتخلوا عن دينهم (ذكر القرآن قصّة هذا الاضطهاد في موضوع أصحاب الأخدود في سورة البروج، و بيّناها بالتفصيل هناك). بعد هذه الجريمة نجا من بين النصارى رجل اسمه (دوس) و توجه إلى قيصر الروم الذي كان على دين المسيح، و شرح له ما جرى. و لما كانت المسافة بين الروم و اليمن بعيدة، كتب القيصر إلى النجاشي (حاكم الحبشة) لينتقم من ذو نواس لنصارى نجران، و أرسل الكتاب بيد القاصد نفسه.

جهّز النجاشي جيشا عظيما يبلغ سبعين ألف محارب بقيادة أرياط و وجهه إلى اليمن. و كان أبرهة أيضا من قواد ذلك الجيش. اندحر ذو نواس و أصبح أرياط حاكما على اليمن، و بعد مدّة ثار عليه أبرهة و أزاله من الحكم و جلس في مكانه. بلغ ذلك النجاشي، فقرر أن يقمع أبرهة. لكن أبرهة أعلن استسلامه الكامل للنجاشي و وفاءه له. حين رأى النجاشي منه ذلك عفا عنه و أبقاه في مكانه.

و أبرهة من أجل أن يثبت ولاءه، بنى كنيسة ضخمة جميلة غاية الجمال، لا يوجد على ظهر الأرض مثلها آنذاك، و قرر أن يدعو أهل الجزيرة العربية لأن‏ يحجّوا إليها بدل الكعبة، و ينقل مكانة الكعبة إلى أرض اليمن. أرسل أبرهة الوفود و الدعاة إلى قبائل العرب في أرض الحجاز، يدعونهم إلى حجّ كنيسة اليمن، فأحسّ العرب بالخطر لارتباطهم الوثيق بمكّة و الكعبة ونظرتهم إلى الكعبة على أنّها من آثار إبراهيم الخليل عليه السّلام.

تذكر بعض الرّوايات أنّ مجموعة من العرب جاؤوا خفية و أضرموا النّار في الكنيسة. و قيل إنّهم لوثوها بالقاذورات، ليعبروا عن اعتراضهم على فعل أبرهة و يهينوا معبده. غضب أبرهة و قرر أن يهدم الكعبة هدما كاملا، للانتقام و لتوجيه أنظار العرب إلى المعبد الجديد، فجهّز جيشا عظيما كان بعض أفراده يمتطي الفيل، و اتجه نحو مكّة. عند اقترابه من مكّة بعث من ينهب أموال أهل مكّة، و كان بين النهب مائتا بعير لعبد المطلب.

عبد المطلب كان على ملّة إبراهيم (ع)

بعث أبرهة قاصدا إلى مكّة و قال له: ابحث عن كبير القوم و قل له إنّ أبرهة ملك اليمن يدعوك. أنا لم آت لحرب، بل جئت لأهدم هذا البيت، فلو استسلمتم، حقنت دماؤكم. جاء رسول أبرهة إلى مكّة و بحث عن شريفها فدلوه على عبد المطلب، فحدثه بحديث أبرهة، فقال عبد المطلب، نحن لا طاقة لنا بحربكم، و للبيت ربّ يحميه.

ذهب عبد المطلب مع القاصد إلى النجاشي، فلما قدم عليه جعل النجاشي ينظر إليه و راقه حسنه و جماله و هيبته، حتى قام من مكانه احتراما و جلس على الأرض و اجلس عبد المطلب إلى جواره لأنّه ما أراد أن يجلس عبد المطلب على سرير ملكه ثمّ قال لمترجمه اسأله ما حاجتك؟ قال عبد المطلب: نهبت إبلي فمرهم بردّها عليّ. فاندهش أبرهة و قال لمترجمه: قل له إنّه احتل مكانا في قلبي حين رأيته، و الآن قد سقط من عيني. أنت تتحدث عن إبلك و لا تذكر الكعبة و هي شرفك و شرف أجدادك، و أنا قدمت لهدمها؟! قال عبد المطلب: أنا ربّ الإبل، و للبيت ربّ يحميه؟! عاد عبد المطلب إلى مكّة، و أخبر أهلها أن يلجأوا إلى الجبال المحيطة بها، و ذهب هو و جمع معه إلى جوار البيت ليدعو فأخذ حلقة باب الكعبة و انشد أبياته المعروفة:

لا همّ إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك لا يغلبن صليبهم و محالهم أبدا محالك جروا جميع بلادهم و الفيل كي يسبوا عيالك و لا همّ إن المرء يمنع رحله فامنع عيالك و انصر على آل الصليب و عابديه اليوم آلك.

ثمّ لاذ عبد المطلب و جمع من قريش بإحدى شعاب مكّة و أمر أحد ولده أن يصعد على جبل أبو قبيس ليرى ما يجري. عاد الابن مسرعا إلى أبيه و أخبره أن سحابة سوداء تتجه من البحر (البحر الأحمر) إلى أرض مكّة. استبشر عبد المطلب و صاح: “يا معشر قريش ادخلوا منازلكم فقد أتاكم اللّه بالنصر من عنده“.

من جانب آخر، توجه أبرهة راكبا فيله المسمى محمودا مع جيشه الجرار مخترقا الجبال و منحدرا إلى مكّة، لكن الفيل أبى أن يتقدم، أمّا حينما يوجهوه نحو اليمن يهرول، تعجب أبرهة من هذا و تحيّر. و في هذه الأثناء وصلت طيور قادمة من جانب البحر كأنها الخطاطيف و هي تحمل حجرا في منقارها و حجرين في رجلها، بحجم الحمّصة، و ألقوها على جيش أبرهة، فأهلكتهم. و قيل: إنّ الحجر كان يسقط على الرجل منهم فيخترقه‏ و يخرج من الجانب الآخر.

ساد الجيش ذعر عجيب، فهلك منه من هلك، و فرّ من استطاع الفرار، صوب اليمن، و كانوا يتساقطون في الطريق. فأبرهة أصيب بحجر، و جرح، فأعيد إلى صنعاء عاصمة ملكه، و هناك فارق الحياة. و قيل: إنّ مرض الحصبة و الجدري شوهد لأوّل مرّة في أرض العرب في تلك السنة. و قيل: إنّ أبرهة جاء بفيل واحد كان يركبه و اسمه محمود. و قيل: بل ثمانية أفيال، و قيل: عشرة، و قيل: اثني عشر.

و في هذا العام ولد رسول اللّه (ص) حسب الرّواية المشهورة، و قيل إنّ بين الحادثتين ارتباطا. على أي حال، فإن أهمية هذه الحادثة الكبرى بلغت درجة تسمية ذلك العام بعام الفيل، و أصبح مبدأ تاريخ العرب}.[2][3]

النتيجة

وبناءً على ما ذكر من طبيعة الملوك الظلمة والجبابرة، فإن أبرهة كغيره من الطغاة انتهى به المطاف إلى الهلاك والزوال، بعدما أظهر الطغيان وتجاهل حقوق غيره الناس، يُظهر هذا أن الطغيان والاستبداد مهما مالك صاحبه من قوة ومال فإنهما لا يدومان، وأن نهاية الظالمين دائمًا تكون محتومة كما بينت قصة أبرهة وما آل إليه من عاقبة سوء أفعاله وكذلك جيوشه الجرار، ليتعظ من جاء بعده ويعلموا أن الله عز وجل يمهل ولا يهمل، وأن العدل والحق هو الدائم الذي ينتصر في النهاية.

الهموامش

[1] – الفيل: 1-5.

[2] – مكارم الشيرازى، الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج‏20، ص461-465.

[3] – سيرة ابن هشام، ج 1، ص 38- 62؛ 4 – بلوغ الإرب، ج 1، ص 250- 263؛  5 – بحار الأنوار، ج 15، ص 130 و ما بعدها؛  6 – مجمع البيان، ج 10، ص 542.

المصادر

  1. القرآن الکریم
  2. ابن هشام عبد الملك، السيرة النبوية لابن هشام، دار إحياء التراث العربي، لبنان – بیروت – بدون تاريخ النشر.
  3. شكري الألوسي البغدادي، محمود، بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب، دار الكتاب المصري، 2009.
  4. الطبرسى، فضل بن حسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، 10جلد، ناصر خسرو – ايران – تهران، چاپ: 3، 1372 ه.ش.
  5. المجلسي محمد باقر بن محمد تقی، بحار الأنوار، دار إحياء التراث العربي، 1403هـ.
  6. مكارم الشيرازى، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) – ايران – قم، 1421 ه.ق.

مصدر المقالة

مكارم الشيرازى، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) – ايران – قم، 1421 ه.ق.

 

لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *