تتناول هذه المقالة مساعي المناقشة حول فقرة الثقلين من خطبة الغدير، وتسعى لتوضيح دلالتها على امتياز أهل البيت (ع) ودورهم كمرجع للأمة، تؤكد المقالة أن الحديث يوجب التمسك بأهل البيت (ع) كشرط أساسي للوقاية من الضلالة، وليس مجرد محبة أو إكرام، كما تتعرض لمناقشة بعض الاعتراضات على صحة الحديث، مشددة على أن هذه الاعتراضات تفتقر إلى الأسس القوية، بالإضافة إلى ذلك تبرز كلمات العلماء التي تدعم دلالة الحديث على مرجعية أهل البيت، مشيرة إلى أهمية فهم هذا الحديث في سياق الحفاظ على الهوية الإسلامية ومواجهة التحديات.
مساعي المناقشة في فقرة الثقلين من خطبة الغدير
إن اعتبار فقرة الثقلين في حديث الغدير ودلالتها على امتياز أهل البيت (ع) في هذه الأمة واضحان للغاية، ولا صارف حقيقي لهما عدا أن الواقع بعد النبي (ص) لم يجر على التمسك بأهل البيت (ع) ولا على التعامل معهم كقرين للقرآن الكريم ولا على كونهم شرطاً في وقاية الأمة عن الضلالة.
ومن غير الوارد بتاتاً حمل الحديث على وجوب محبة أهل بيت النبي محمد المصطفى (ص) وإكرامهم فحسب، فإن هذا الحديث صريح في وجوب التمسك بهم وقاية عن الضلالة والهلاك، وليس على حد قوله تعالى: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى[1].
ولكن ربما يناقش في ثبوت هذا الحديث بوجهين هما في الحقيقة من المجادلة بغير الحق، ولا قيمة لهما لدى المحققين والنقاد:
الوجه الأول
معارضة هذا الحديث بحديث حكي عن رسول الله (ص) تضمن أن النبي (ص) أمر بالتمسك بالثقلين كتاب الله وسنته.
وهذا الوجه خطأ ظاهر، وذلك:
أولاً: أن هذا الحديث غير ثابت على الصحيح وفق المقاييس النقدية السائدة، ولذا أعرض عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما رغم أن مدلوله يلائم مذاق المحدثين جداً، لأنه يمثل منهجهم في البناء على الكتاب والسنة.
وثانياً: أن مستوى ثبوت خطبة الغدير التي هي حدث تاريخي حضره آلاف الناس لن يقاس بمستوى رواية رويت من قبل بعض الرواة في طبقات متأخرة عن بعض الصحابة تضمنت أن فقرة الثقلين هما الكتاب والسنة، بل تنبه مثل هذه المعارضة على أن حدوث هذه الرواية (كتاب الله وسنتي) إنما كان في ضمن مساعي معارضة خطبة الغدير، وهي تندرج ضمن ظاهرة التعامل السلبي مع الأحاديث الواردة في شأن أهل البيت (ع).
وهناك من قال إنه لا تنافي بين الحديثين، لأن حديث كتاب الله وسنتي لم يتضمن أنه جاء في ضمن خطبة الغدير، ولا مانع من تعدد القول، ويكون كل من الحديثين ناظراً إلى اعتبار غير ما ينظر إليه الآخر.
وهذا القول ضعيف بعد وحدة التعبير في الجملتين تماماً.
الوجه الثاني
أن لفظ صحيح مسلم في حكاية خطبة الغدير لم يشتمل على الأمر بالتمسك بالعترة، بل على التوصية بهم، وذلك يعني محبتهم وإكرامهم دون ما يزيد على ذلك.
وهذا الوجه أيضاً خطأ ظاهر وذلك:
أولاً: أن الطريق الصحيح للحديث لا ينحصر بطريق مسلم في صحيحه حتى يعتبر بلفظه فحسب، بل صح الحديث بطرق وألفاظ أخرى منها ما يصح على شرط مسلم نفسه وبرواية رجاله الذين اعتمد عليهم، ومن جملتها ما اشتمل صريحاً على ذكر التمسك بهم أو ما في معناه كما في رواية زيد بن أرقم عند الطبراني المصرح بصحتها من قوله: فلا تقدموهما [ الكتاب والعترة] فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا[2].
بل يصح القول إن اللفظ الأشهر في الطرق الصحيحة والحسنة وشواهدها هو الأمر بالتمسك بالثقلين، وأما لفظ مسلم الذي خلا عن ذكر التمسك وما بمعناه فهو نقل نادر.
وثانياً: أن المحدث النابه والناقد لا يخفى عليه أن الراجح اشتمال أصل الحديث على الأمر بالتمسك بأهل البيت (ع) بملاحظة مجموع جهات:
1ـ إن الأمر بالتمسك ورد في أكثر الطرق الصحيحة والموثوقة عند عامة النقاد، والخلو عنه حالة قليلة أو نادرة.
2ـ إن الأحاديث المتعلقة بأهل البيت (ع) التي وردت من طريق أهل السنة قد اتفق فيها – حسب ما يظهر بالمقارنة – تغيير ألفاظها بما يخفف دلالتها على مكانتهم انسجاماً مع الاتجاه العام لدى أهل السنة من شرعية الخلافة، وتصحيحاً لسيرة الخلفاء في إبعاد أهل البيت (ع) عن التصدر والمرجعية في هذه الأمة.
ألا ترى أن جميع النقاد يعترفون بأن حديث الغدير بجزأيه – فقرة الهدى وفقرة الولاء – يصح على شروط البخاري ومسلم في صحيحيهما بوضوح ومن طرق متعددة، بل عده جماعة من أهل العلم الأشداء في الرد على الإمامية كالذهبي من الأحاديث المتواترة، ولكن البخاري أهمل الحديث تماماً ولم يذكرها في فضائل علي (ع).
بينما لم يهمل مثله ودونه في الإسناد في فضائل أبي بكر وعمر، كما أن مسلم ترك ما يشتمل على جملة من كنت مولاه فهذا علي مولاه مع اتفاق الجميع عدا البخاري على روايته وعلى تصحيحه، وكم لذلك من أمثلة يجدها أي باحث ناقد مهما تكلف في توجيه صنيع المحدثين.
والواقع أن بعض المحدثين إنما يروي الحديث مجزأ أو بألفاظ أخف لامتصاص زخم ثبوت الحديث على الوجه الكامل والأثقل، كي يعطي اعتباراً إضافياً للفظه الخفيف والمجزأ، لأنه يجد أن الإهمال المطلق قد يؤدي في النهاية إلى تقوية اللفظ الكامل والأقوى، وليس ذلك مني سوء ظن، ولكنه أمر يشاهده الممارس على وجه المعاينة في موارد عديدة، ولا أعني أن جميع من أورد الألفاظ المجزأة والخفيفة متهم في ذلك، ولكن هناك من يتصدى لذلك فيتبعه آخرون من غير تعمد.
ولذلك فإنه متى صحت وكثرت الأحاديث الواردة في حقهم بالألفاظ المؤكدة كانت الألفاظ المخففة مريبة ومشكوكة حقاً.
3ـ إن قرن القرآن الكريم وأهل البيت (ع) والتعبير عنهما بالثقلين مع ما فيه من التفخيم إنما يناسب الأمر بالتمسك بهما سواء، لا الأمر بمحبتهم وإكرامهم الذي غايته أن يكون أحد الواجبات الكثيرة في الدين، كما يجب محبة الوالدين وإكرامهما والإحسان إليهما، وكما تجب صلة الأرحام وتحرم قطيعتهم، إلى غير ذلك.
بل يثق الأديب الناظر في هذه الخطبة أن ذكر الكتاب فيها إنما كان دعماً للأمر بالتمسك بأهل البيت (ع) الذي هو موضوع هذه الخطبة، ولولا ذلك لم يعقد النبي محمد (ص) هذه الخطبة بعد مغادرة مكة وبعد خطبه المتعددة فيها، وليست الغاية منها بيان أمر بديهي وواضح هو أساس الدين كله وأساس النبوة والرسالة وهو الأمر بالتمسك بالقرآن الكريم.
فخطبة الغدير بمقدماتها مسوقة لبيان اصطفاء أهل البيت (ع) في هذه الأمة وعقد الولاء الخاص للإمام علي بن أبي طالب (ع) على حد ولاء النبي (ص).
بل كان عقد خطبة الغدير بعد الخروج من مكة وتخصيصها بالحديث عن مكانة أهل البيت والإمام علي (ع) حصراً لأجل أن يكون لها تميز في المكان والزمان والاجتماع والعناء، فإنها لو ألقيت في ضمن خطبه (ص) في مكة لكان أمراً طبيعياً غير ملفت ولذهبت أدراج الرياح كبعض خطبه (ص) في حجة الوداع التي لم تؤثر مضامينها.
ولكن ترتيبها على نحو مفاجئ وغير اعتيادي ساعد على الحفاظ عليها، وذلك من تدبير الله سبحانه فيها أذن فيه لرسوله (ص)، وكم لذلك من نظائر عند التمعن في خصوصيات المواقف في السنة النبوية، ولعل الله سبحانه يسهل التأليف فيها وإبراز مكامنها والمعاني الظريفة والذكية وراء أحداثها.
كلمات العلماء في دلالة فقرة الثقلين على امتياز أهل البيت
أن جمعاً غير قليل من علماء أهل السنة الذين تصدوا لشرح حديث الثقلين استوضحوا دلالته على امتياز أهل البيت (ع) ومرجعيتهم للأمة، وقد اعتنى بعض أهل العلم بجمع جملة منها:
قال محمد بن عبد الباقي الزرقاني في شرح المواهب اللدنية في شرح حديث الثقلين:
1ـ قال الحكيم الترمذي: حض على التمسك بهم؛ لأن الأمر لهم معاينة فهم أبعد عن المحنة، وهذا عام أريد به خاص وهم العلماء العاملون منهم، فخرج الجاهل والفاسق، وهم بشر لم يعروا عن شهوات الآدميين ولا عصموا عصمة النبيين، وكما أن كتاب الله منه ناسخ ومنسوخ فارتفع الحكم بالمنسوخ، كذلك ارتفعت القدوة بغير علمائهم العظماء الخ.
2ـ قال ولي الله اللكهنوئي في مرآة المؤمنين بعد ذكر حديث الثقلين: ثم الذين وقع الحث عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله، وذكر مثل ما نقلناه عن العجيلي.
3ـ قال الحكيم الترمذي في نوادر الأصول فقول رسول الله (ص): لن يفترقا حتى يردا على الحوض، وقوله: ما أن أخذتم به لن تضلوا واقع على الأئمة منهم السادة لا على غيرهم.
4ـ قال عبد الرؤوف المناوي في فيض القدير في شرح الحديث المنقول عن زيد بن ثابت وعترتي أهل بيتي تفصيل بعد إجمال بدلاً أو بياناً وهم أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
5ـ قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في شرح الحديث: أهل بيتي بيان لعترتي وعترة الرجل نسله ورهطه وعشيرته الأدنون ممن مضى وعبر ونبه (ص) بأهل بيتي تشريفا وتكريما لهم بكونهم أهل بيته، ومخالطين موقتبسين من أنواره فائزين بأسراره، انتهى.
والواقع أن دلالة حديث الثقلين على مرجعية أهل البيت (ع) في الدين أمر واضح، إلا أن هؤلاء ظنوا أن المنظور عامة من اتصف بالعلم من عترة النبي (ص) وذريته، وهو طبعا غير مناسب.
لأن مؤدى الحديث أن الأمة إذا رجعت إليهم لن تضل ولن تهلك أبدا وهذا لا ينطبق على عامة أهل البيت (ع) وذريتهم وأن كانوا من أهل العلم، لوضوح أنهم عرضة للخطأ كغيرهم من العلماء وهو أمر ظاهر بملاحظة أحوالهم في التاريخ الماضي والحاضر، على أن ضمان الصيانة عن الخطأ لن يكون الا بتسديد من الله تعالى.
وهو لا يعقل أن يحصل لكل واحد منهم، فإنه لا يوافق سنن الله تعالى في هذه الحياة والتي جرى عليها في الأمم السابقة وإنما يعقل أن يكون ذلك في شأن رجال معدودين بأعيانهم كما هو فحوى كلمات الإمام علي (ع) في خطبه المأثورة كالتي جاءت في نهج البلاغة، وهو الذي جرى عليه الشيعة الإمامية.
الاستنتاج
أن فقرة الثقلين من خطبة الغدير تُبرز بوضوح مكانة أهل البيت (ع) كمرجع أساسي للأمة، وتؤكد على ضرورة التمسك بهم كشرط للوقاية من الضلالة، وترفض المقالة الاعتراضات على صحة الحديث، وتوضح أن هذه الاعتراضات تفتقر إلى الأسس العلمية، مشيرة إلى أن الحديث يدعو إلى أكثر من مجرد المحبة والإكرام، كما تُظهر أهمية دلالات العلماء في تأكيد مرجعية أهل البيت (ع) من خلال فقرة الثقلين، وتبرز أن هذه الدلالات لا تنطبق على جميع ذرية النبي (ص) بل على عدد محدود من الأئمة الذين تتوفر فيهم شروط العصمة والتوجيه الإلهي.
الهوامش والمصادر
[1] الشورى، 23.
[2] الطبراني، سليمان، المعجم الكبير، ج5، ص167. بيروت، دار إحياء التراث العربي، طبعة 1405 ه.
مصدر المقالة (مع تصرف)
السيستاني، محمد باقر، واقعة الغدير ثبوتها ودلالاتها، الطبعة الثانية، 1444 ه، بلا تاريخ، ص291 ـ ص301.