هل هناك مفارقة بين غيبة النبي عيسى وبين غيبة الإمام المهدي؟ وهل لله تعالى القدرة على حفظ أوليائه وحججه عن أعدائه؟ ثم أن الآيات تؤكد بقاء عيسى حيّاً، وأنه غاب عن مجتمعه الفاسد حسّيا، حتّى لا يتلوَّث بدرن النظام الاجتماعي الظالم الكافر، بحوث نتطرق إليها.
ظاهرة النبي عيسى وصلتها بالإمام المهدي وغيبته
ظاهرة النبي عيسى (ع) وصلتها الوطيدة جدَّاً بظاهرة الاعتقاد والعقيدة بالإمام المهدي وغيبته، يذكرها القرآن في جملة من السور، حيث يقول الباري تعالى عن اليهود: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا[1]، هنا تمهّد الآيات في سورة النساء إلى مطلع هذه الآية، وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا[2]، حيث لم يؤمنوا بأنَّ عيسى بن مريم قد ولد بإعجاز من الله تعالى، بل قذفوا مريم بالبهتان والفاحشة العظيمة عندما ولدت عيسى من غير أب ومن غير زواج، فطبع الله على قلوبهم بسبب كفرهم وبسبب قولهم بهتاناً على مريم.
هنا يبيّن القرآن، أنَّه بسبب قولهم: إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ، طبع الله على قلوبهم فلا يؤمنون، فالقول بعدم حياة حجّة الله التي ضمنت السماء والرسالة السماوية حفظه وإبقاءه، يتصادم مع قدرة الله تعالى، إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا[3]، إذ قام الدليل من الوحي الإلهي على وجود حجّة من حجج الله في أرضه.
ثمّ حصلت شبهة من قِبَل الظالمين حول استئصال ذلك الحجّة، فترك تلك الحجج الإلهية القائمة على أنَّ الحجّة حيّ، وأنَّ الخليفة حيّ باقٍ، مقابل بعض الأحداث المشبهة والموهمة أنَّ الظالمين استطاعوا أن يستأصلوا خليفة الله في الأرض أو استطاعوا أن يبيدوا حجّة الله في الأرض، هذا هو السبب لأن يطبع الله على قلب الفرد الإنساني فلا يؤمن.
فإذا أنبئنا القرآن أنَّ لله تعالى في كلّ زمن خليفة له في الأرض كمعادلة دائمة من أوّل بدء الخليقة البشرية إلى آخر حياة البشر، إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً[4]، هذا الخليفة لا بدَّ أن يكون موجوداً دائم.
كما ينبئنا القرآن بأنَّ الإمامة لن تعدم في ذرّية آل إبراهيم إلى يوم القيامة كما في قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا، فليس التعبير في الآية: إنّي جاعلك للناس نبيّاً، أو رسولاً، ذاك مقام آخر، وهذا مقام ثالث: قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ[5]، أي إنَّ الإمامة تبقى في غير الظالمين من ذرّيته، ومن ذرّيته إسماعيل وآل إسماعيل، وهم النبي وأهل بيته (ع).
إذن أنبأنا القرآن على أنَّ الإمامة باقية في آل إبراهيم وذرّية إسماعيل، وقوله تعالى: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، دعوة إبراهيم وإسماعيل عندما كانا يبنيان قواعد البيت، وَمِن ذُرِّيَّتِنَا، ذرّية إسماعيل التي فيها الإمامة وليس ذرّية إسحاق، أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ، يعني نفس درجة الإسلام والتسليم لله تعالى التي طلبها إبراهيم وإسماعيل بعد أن كانا نبيّين فهي درجة تسليم من درجات العصمة العالية، وهي درجة تضاهي الإمامة، وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[6]، وهو خاتم النبيين.
وكذلك تدلُّ آخر آية من سورة الحجّ: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ حيث يخاطب ثلّة من هذه الأمّة، مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ، فهم من نسل إبراهيم، مجتبَون، لهم صلة بسيّد الأنبياء، وهو الذي دعا أن تكون الإمامة في ذرّيته وفي آل إسماعيل، مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ[7]، على أهل البيت، وتكونوا شهداء على الناس، وهو مقام الإمامة.
وهناك الكثير من الآيات التي تدلُّ على إمامة أهل البيت، وأنَّ الإمامة لن تقطع ولن تبتر في أهل البيت الذين وصفهم الله بالتطهير في هذه الأمّة، واُعزي إليهم مقدرات الأرض، حيث قال تعالى: مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ[8]، الفيء في تعبير القرآن وحتَّى في فقه مذاهب المسلمين يمثّل كلّ ثروات الأرض، فإدارتها وولاية تدبيرها لصرفها في الطبقات المحرومة من البشرية ولتوزيعها العادل لترسو العدالة.
والآيات كثيرة في القرآن تدلّل على بقاء إمامة أهل البيت وحياة صاحب العترة الإمام في أهل البيت دائم، فمن يقول بعدم وجود إمام حيّ من العترة، وهو صاحب الأمر تضاهي مقولته مقولة اليهود التي استعرضها لنا القرآن، بأنَّ الله تعالى طبع على قلوبهم بسبب قولهم: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ.
دور عيسى المسيح في الإصلاح العالمي
ظاهرة النبي عيسى (ع) ظاهرة قريبة جدَّاً في بدئها وختمها بقضيّة الإمام المهدي (ع)؛ لأنَّه قد بات واضحاً لدى المسلمين ولدى حتَّى أتباع الديانات السماوية أنَّه (ع) ينزل لتكون له مشاركة ودور ما في تلك الدولة الإلهية التي ستقام على الأرض لإصلاحها، وقد بات واضحاً لدى المسلمين في أحاديثهم المتواترة أنَّ النبي عيسى (ع) إنَّما ينزل في ذلك الحين لإقامة الإصلاح في الأرض في دولة الإمام المهدي (ع)، تلك الدولة التي يصلّي فيها خلف الإمام المهدي (ع).
فنزوله فصل من العقيدة بظهور الإمام المهدي المنتظر، أي شقّان لعقيدةٍ واحدة، وحقيقة بيّنة ثابتة يعتقد بها المسلمون ويعتقد بشطر منها النصارى واليهود، وبالتالي فإنَّ استعراض هذه الظاهرة في القرآن ذو صلة وثيقة بظهور الإمام المهدي (ع) وبحياته في الغيبة؛ لأنَّه قرن اسم عيسى باسم المهدي في بيانات القرآن وبيانات الحديث النبوي المتواتر مستفيضاً عند فِرَق المسلمين.
1ـ إنكار البراهين اليقينية يستلزم انتكاس القلوب
يؤكّد القرآن على أنَّ من قامت لديهم البراهين على حياة النبي عيسى وأنَّه حيّ وأنَّه سيبعث في دولة الإمام المهدي ليكون له دور في تلك الدولة وبإمامة الإمام المهدي وهو رجل من عترة النبي، فالقول إذن بعدم حياته وبأنَّه قد قتل وبأنَّ قوى الشرّ في ذلك الزمن قبل أكثر من عشرين قرناً قد استأصلته، هذه المقالة في الواقع تتسبَّب بأن يطبع الله على تلك القلوب ويسلبها الإيمان.
هذا الدرس القرآني يعطينا هذه النتيجة: بأنَّ البشارة بالنبي عيسى قبل أن يولد وأنَّه سوف يأتي ليكون له دور، واليهود في الحقيقة وبنو إسرائيل لا زالوا حتَّى في العهد القديم يؤمنون بمجيء النبي عيسى، وإن كانوا يجحدون النبي عيسى الذي ولد من غير أب، ويتَّهمونه بالسحر، وأنَّ كلّ ما قام به من أمور هي من السحر، ويبهتون ويفترون على مريم بهتاناً عظيما، ولكن رغم ذلك وإلى جانب جحودهم وتكذيبهم بالنبي عيسى يقولون بمقالة عودته إلى الأرض لما ورد عندهم من البشارات بأنَّ النبي عيسى سوف يكون له دور مشاركة مهمّة.
هذه الوقفة القرآنية في الواقع هي تنبيه للمسلمين على أنَّ الكتاب العزيز قد بشَّرهم بأنَّ الدين سوف يظهر على الأرض، وأنَّ رجلاً من العترة هو الذي يملأها قسطاً وعدلاً.
وهذا جاء في الحديث النبوي متواترا، بأنَّ المهدي من ذرّية النبي (ص) وذرّية فاطمة (س)، يظهره الله ليملأ الأرض قسطاً وعدلا، ويحقّق على يديه الإنجاز الإلهي من نشر الدين والعدل والقسط من أرجاء الأرض كافّة، وهي الدولة التي يقيمه.
والقرآن يبشّرنا عن رجل من العترة، حيث يقول: مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ[9]، إذ أنَّ الفيء وثروات الأرض تكون صلاحية إدارتها وولاية تدبيرها في التشريع الإلهي بيد القربى وعترة النبي، وهم الذين يؤهّلون للتوزيع العادل للفيء وهو ثروات الأرض، في اليتامى والمساكين وابن السبيل، أي الطبقات المحرومة.
إذن البراهين القرآنية قائمة أيضاً على أنَّ المصلح هو من العترة، والذي يقيم العدالة في الأرض هو من العترة، وغيرها من الآيات الدالّة على بقاء رجل من العترة في طيلة الأزمان، يقوم بأدوار الإمامة والخلافة والإصلاح في الأرض، فالتكذيب بحياته هو تكذيب بالوعد الإلهي، وتكذيب بهذا الوعد الإلهي الذي أكَّده وضمَّنه الباري تعالى من الإصلاح.
إذن هناك حلقات عديدة تربط وتوثّق الصلة بين العقيدة بحياة النبي عيسى (ع)، وبنزوله للمشاركة في دولة الحقّ لإقامة وإرساء العدالة الإلهية وإظهار دين الحقّ على أرجاء الأرض كافّة.
والقرآن يؤكّد على أنَّ العدالة لم ولن تستتب في الأرض إلاَّ بيد ذوي القربى من أهل البيت (ع)، فلينظر المسلم إلى قول النبي (ص): لو لم يبقَ من الدنيا إلاَّ يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يبعث فيه رجلاً من ولدي يواطئ اسمه اسمي، يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلما.
المهدي الذي أخبر النبي (ص) عنه في أحاديثه المتواترة عند المسلمين بأنَّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويظهر الدين في أرجاء الأرض كافّة، ويحقّق إنجاز الوعد الإلهي للنبيّ في ثلاث سور من القرآن.
والنبوءة القرآنية تدلّل على أنَّ الذي يدير دولة الإصلاح الإلهي في الأرض لاستتباب العدالة هو رجل من عترة النبي (ص) وليس النبي عيسى، وإنَّما النبي عيسى سوف يكون له دور مساهمة ومعين ومؤازر للمهدي (ع) فالبراهين القرآنية متطابقة على أنَّه سيكون لعيسى دور في نزوله، وإسهام ومناصرة للدور الرئيسي الذي يقوم به رجل من ذوي قربى النبي ليفشي العدل والقسط في الأرض وهو المهدي (ع).
لأنَّ الآيات القرآنية أيضاً دلَّت على أنَّ هناك بقاءً دائماً لخليفة الله في الأرض، وهو رجل من العترة، وهو الذي يبسط العدل والقسط في الأرض، وتكون الإمامة دائماً في ذرّية آل إبراهيم وآل إسماعيل، وبراهين وآيات قرآنية غفيرة دالّة على إمامة العترة وأنَّها باقية لا تنقطع.
فالتكذيب بهذه البراهين القرآنية يُنذرنا عنه القرآن ويحذّرنا منه لكي لا نكون كاليهود وبني إسرائيل الذين طبع الله على قلوبهم وسلب الإيمان من قلوبهم بسبب جحودهم للبشارة الإلهية، وذلك بأن أنكروا حياة عيسى، فإنكار حياة النبي عيسى يمثّل إنكار البشارة الإلهية، فهذا إنذار بمن اقترن اسمه باسم عيسى وهو المهدي (ع) الذي دلَّت البراهين القرآنية على حياته وبقائه.
2ـ مفارقات في الغيبة
أنَّ هناك مفارقة واضحة بين غيبة النبي عيسى وغيبة الإمام المهدي، حيث إنَّ غيبة النبي عيسى كما يصرّح القرآن هي الرفع، كما قال تعالى: يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا[10]، والمقصود بذلك أنَّ النبي عيسى لا زال على قيد الحياة ولكنَّه في السماء عند الله تعالى.
إلاَّ أنَّ غيبة الإمام المهدي ليست في السماء، وليست خفاءاً واستتاراً في السماء، وإنَّما هي استتار في الأرض، وليس استتاراً في بقعة خاصّة عن بقيّة البقاع، وإنَّما المراد منها خفاء هويّته، خفاء الشعور به، فهي ليست غيبة نأي ولا ابتعاد ولا مزايلة عن ساحة الحدث، بخلاف غيبة النبي عيسى، فهي استتار في السماء.
وهذا فارق آخر بين غيبة النبي عيسى وغيبة الإمام المهدي (ع)، وهو أنَّ الإمام المهدي في ظلّ غيبته هو الإمام الذي يضطلع ويقوم بأدوار ومسؤولية الإمامة والخلافة في الأرض عبر ما حدَّثنا القرآن من نماذج كما في غيبة النبي يوسف والنبي موسى والخضر.
فهناك أجهزة متعدّدة يقوم بها الإمام المهدي في أدواره في النظام البشري بنحو خفي، والدوائر التي تحيط به من أولياء الله ورجال الغيب، أي رجال الخفاء والسرّية من أولياء الله وأصفيائه، كالخضر ومجموعته ومجاميع أخرى من الدوائر والأبدال والسيّاح والأركان والأوتاد وما شابه ذلك، هؤلاء في الواقع يقومون بأدوار متعدّدة.
بالإضافة إلى طول مدّة غيبة النبي عيسى وقصر مدّة غيبة الإمام المهدي بالقياس لها.
3ـ الحراسة الإلهية لولي الله
وهي قوله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ[11]، يريد القرآن إثبات أنَّ في قدرة الله تعالى أن يحفظ أولياءه، وأن يحفظ حجّته رغم محاولة إقدام سلطات الوقت على تصفيته جسديا.
فقد كان الملك الطاغية في بني إسرائيل يلاحق عيسى للإعدام والاستئصال بتحريك من بني إسرائيل ومن اليهود في عداوتهم له، كما يحدّثنا القرآن إخباراً من الله للنبيّ عيسى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ[12]، فأبدوا له العداوة ومحاولة التصفية والإبادة.
فيبيّن لنا القرآن أنَّ ما حاول بنو إسرائيل واليهود ارتكابه من قتل وصلب النبي عيسى، هو جحود لوجود الحراسة والضمانة الإلهية، وهذا درس مهمّ.
وهذا بنفسه جرى في ظاهرة الإمام المهدي، وهي ظاهرة عامّة أنَّ سلطات الشرّ وحكومة الظلم عندما تتوجَّس خيفة من مصلح، وسيّما أنَّ النبي عيسى عندهم مبشّر وأنَّه يساهم في إقامة دولة الإصلاح، ولذلك فإنَّ ملوك الشرّ وملوك الظلم يتوجَّسون خيفة من ظهور هذا المصلح، ولذلك تنبري قوّة الشرّ لتصفية النبي عيسى وقتله، كما هو الحال في العبّاسيين، حيث سجنوا الإمام الهادي جدّ الإمام المهدي وسجنوا والد الإمام المهدي وهاجموا بيت الإمام الحسن العسكري مرَّات وكرّات ليقتلوه.
ويحدّثنا التاريخ أنَّ الإمام العسكري كان يقطن بيته المحاصر في سُرَّ من رأى التي كانت قاعدة عسكرية خمسة فقهاء من فقهاء البلاط العبّاسي من وعّاظ السلاطين ليراقبوا الإمام العسكري.
هكذا كانت الرقابة شديدة جداًّ، وكانت نسوة وجواري وبعض إماء الإمام العسكري يراقب حملهنَّ، كما فعل فرعون مع نسوة بني إسرائيل كي يقتل كلّ ولد ذكر يولد في عصره، ومع ذلك حقَّق الله الإنجاز بوعده لتولّد النبي موسى وظهوره وإصلاحه وغيبته ثمّ ظهوره ثمّ دكدكته وإطاحته بعروش الفراعنة.
4ـ التأكيد على بقاء عيسى حيّاً
قول الله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ[13]، هذه ملحمة قرآنية مهمّة احتدمت فيها آراء المفسّرين وأقوالهم في قوله تعالى: شُبِّهَ لَهُمْ؟ وكيف يحصل التشبيه؟
يحدّثنا الإمام محمد الباقر (ع): أنَّ الجلاوزة حاصروا عيسى وكان مع حواريّيه الاثني عشر في بستان وفي دار، وكان بإيعاز من بني إسرائيل واليهود، وتقلقل الملك الذي كان مستبدّاً وغاشماً من بشارة كون النبي عيسى مصلحاً وأنَّه سوف يكون هو مبشّراً بالإصلاح وإقامة دولة الإصلاح والمساهمة فيه، وما بثّه عنه اليهود، فحوصر النبي عيسى، وكان قد أخبره الله تعالى بهذا الأمر وبكيد الكائدين.
كما تحدّثنا بذلك سورة آل عمران: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [14]، والتوفّي ليس الإماتة كما ذكرته روايات أهل البيت (ع) في تفسير بيان ظاهر هذه الآية، حينها أخبر النبي عيسى حوارييه بما سيجري وأنَّ الله رافعه، فمن منهم يضحّي ويفدي نفسه بأن يلقى عليه شبه عيسى ويقتل ويصلب ولكي يكون في درجة النبي عيسى في الآخرة؟
فبادر أحدهم إلى ذلك، وقال له النبي عيسى: كن أنت ذلك، أي الذي يضحّي ويفدي نفسه ويلقى عليه شبه النبي عيسى ليحسبه اليهود هو، فحينئذٍ أتى جلاوزة ذلك النظام ودهموا تلك الدار لقتل النبي عيسى، إلاَّ أنَّ النبي عيسى رفعه جبرئيل من روزنة الدار إلى السماء.
وفي روايات أهل البيت أنَّ وفاة النبي عيسى ليس بمعنى الإماتة، وإنَّما قُبضت روحه في أثناء عملية الرفع، ثمّ أعيدت له في السماء، كما يتوفّى الله الأنفس في المنام، فهي شبه الحالة المنامية، كما تحدّثنا الآية: يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [15].
فاستعمل القرآن التوفّي في المنام، كما استعمله في حالة نزع الروح، فكلّ منهما يعبّر عنه القرآن بـ التوفّي؛ لأنَّه يتمّ نوع ودرجة من نزع الروح، وهنا التعبير بالتوفّي إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ليس معنى وفاة الموت، وإنَّما هو وفاة شبه الحالة المنامية أو غيره، ولمَّا رفع إلى السماء، أعيدت إليه الروح كما يستيقظ النائم مثلا، وهو حيّ باقٍ في سماء ربّ العالمين، إلى أن ينزله الله لإصلاح الأرض، كما تحدّثنا بذلك سورة النساء.
كما دهمت جلاوزة بني العبّاس عدّة مرَّات بيت الإمام العسكري لكبس وقتل الإمام المهدي، وأحد المرَّات التي دهموا فيها بيت الإمام العسكري الذي كان مشتملاً على طابق سفلي تحت سطح الأرض كما هو متَّخذ في جملة من البلدان في العراق وإيران لأجل التبريد من حرارة الشمس ومتّصل ببقيّة طبقات المبنى والذي يدعى الآن بـ «سرداب الغيبة».
والمراد منه أنَّه كان (ع) موجوداً في ذلك البيت، وقام جلاوزة بني العبّاس بكبس ومداهمة البيت، إلاَّ أنَّ الله أعماهم كما أعمى قريشاً عندما دهمت بيت النبي ليلة مبيت علي في فراش النبي (ص)، فهم قد دهموا بيت النبي، إلاَّ أنَّه خرج من بين أيديهم فعمى الله أبصارهم، هكذا حصل.
هكذا صنع الله، وهكذا يخبرنا القرآن بأنَّ ذلك ليس عزيزاً على قدرة الله، فألقى الله شبه عيسى على ذلك الحواري، فأخذه جلاوزة النظام ظنّاً منهم بأنَّه عيسى، فقتلوه وصلبوه، وهنا تتبيَّن القدرة الإلهية.
المعطيات الحسّية في ولادة الإمام المهدي
سؤال: لماذا لا يكون في الإيمان والاعتقاد بالإمام المهدي معطية حسّية؟
إنَّ المعطية الحسّية موجودة فيما تناقلته وروته الإماميّة من أتباع مدرسة أهل البيت في ظلّ الظروف القاهرة الأمنية الكابسة الخانقة من دولة بني العبّاس، وهذا بيّن لدى كلّ المسلمين.
أنَّ الدولة العبّاسية استقدمت الإمام الهادي والإمام العسكري من المدينة المنوَّرة، وأقامت عليهما رقابة عسكرية حتَّى في بيتهما (ع)، وفي بعض الأخبار الروائية والتاريخية التي يروونها أنَّ عشرة من جلاوزة وعلماء بلاط بني العبّاس كانوا يمكثون في بيت الإمام العسكري للرقابة، إلى هذا الحدّ كان هناك استنفار أمني بدرجة قصوى لدى الدولة العبّاسية تجاه الإمام العسكري وتجاه الإمام الهادي، خمداً لأنفاس الإمامة حسب ما يتوهَّمون لإطفاء نور إمامة أهل البيت (ع)، وتحسّباً من مجيء ولدهم الثاني عشر الموعود بأن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
ضمن هذه الظروف القاهرة الخانقة الكابسة الظالمة لدولة عظيمة آنذاك، يقول: لِمَ لا تبدي لي مسحة حسّية وردية؟! وكأنَّما هو يتنكَّر إلى المعطيات الموجودة التي أجمعت عليها البشرية والمسلمون آنذاك في ذلك الظرف التاريخي الخانق، ورغم ذلك هناك معطيات حسّية كثيرة، لكن كيف يسوغ لمسلم يقرأ القرآن ويهتدي ويسترشد من القرآن أن يجعل من الحسّ المحور الأوّل والأخير ويترك الدلائل الوحيانية البرهانية الأخرى.
فالاعتقاد بعقيدة الإمام المهدي وعقيدة النبي عيسى وأنَّهما حيّان في قدرة الله، وأنَّهما معدّان ومدَّخران للإصلاح الإلهي العامّ الشامل الكبير.
إذن هذه الحالة الحيوية الناشطة وهذه الحالة المتحرّكة باعثة دائماً النشاط وعدم اليأس وعدم الاغترار بعجز النفس أو عجز البشر، بل هي أمر بين أمرين، فالحيوية إذن كامنة في الاعتقاد بعقيدة الإمام المهدي وظاهرة النبي عيسى.
5ـ الهجرة عن الفساد
بعد ذلك يواصل لنا القرآن محطّة مهمّة في ظاهرة النبي عيسى (ع)، وهي ظاهرة الهجرة عن المجتمعات الفاسدة، والغياب الحسّي عنها، قال تعالى: بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا[16].
هذه السُنّة التي تتعرَّض إلى بيانها الآية من رفع النبي عيسى في آية أخرى: وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [17]، هنا تبيّن الآية حكمة رفع النبي عيسى وإبقائه على قيد الحياة إلى أن يحلّ أوان الظهور والنزول والإصلاح الشامل، وهو تطهير الله لأنبيائه ورسله وخلفائه الأئمّة عن التلوّث بالبيئة الفاسدة الظالمة المنحرفة.
فالسبب الكبير المبيَّن في القرآن لغيبة النبي عيسى (ع) هو أن لا يتلوَّث بدرن النظام الاجتماعي الظالم الكافر، وهنا يبيّن القرآن بأنَّ الشخص في السُنّة الإلهية الذي هو حجّة من حجج الله والموعود بأن يقوم بالإصلاح الشامل لا ينصاع ويتقيَّد بأغلال وأدران النظام الظالم؛ لأنَّ هذا التكبّل بهذه القيود وهذا الانحباس في ظلّ هذه المنظومة الفاسدة من النظام غير العادل والنظام الذي لا يسير مسار العدالة السماوية يعتبره القرآن بيئة فاسدة.
وبالضبط هذه السُنّة الإلهية في ظاهرة النبي عيسى قد بيَّنها أهل البيت في أحد العلل والحكم المهمّة الكبرى في غيبة الإمام المهدي، وهو أنَّه إذا ظهر لا تكون في عنقه بيعة لحاكم ظالم، فيبدأ بدولة الإصلاح.
الاستنتاج
أن للنبي عيسى (ع) دور في دولة الإمام المهدي (ع)، وأنَّ غيبة النبي عيسى هي الرفع إلى السماء واستتار فيها، بينما الإمام المهدي استتاره في الأرض، وخفاء هويّته والشعور به، وأن غيبة عيسى أطول مدة من غيبة المهدي، وأن لله تعالى القدرة في حفظ أوليائه رغم محاولة الأعداء على تصفيته جسديا، والآيات تؤكد على بقاء عيسى حيّاً، وأنه غاب عن المجتمعات الفاسدة حسّيا، حتّى لا يتلوَّث بدرن النظام الاجتماعي الظالم الكافر.
الهوامش
[1] النساء، 155.
[2] النساء، 156.
[3] الطلاق، 3.
[4] البقرة، 30.
[5] البقرة، 124.
[6] البقرة، 128 و129.
[7] الحج، 78.
[8] الحشر، 6.
[9] الحشر، 7.
[10] آل عمران، 55.
[11] النساء، 157.
[12] المائدة، 110.
[13] النساء، 157.
[14] آل عمران، 54 و55.
[15] الزمر، 42.
[16] النساء، 158.
[17] آل عمران، 55.
مصدر المقالة (مع تصرف)
السند، محمّد، الإمام المهدي (ع) والظواهر القرآنية، تحقيق مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (ع)، النجف، بقية العترة، الطبعة الثالثة، 1444 ه، ص257 ـ 304.