مفهوم البداء عند الشيعة وأمثلته والرؤى المنصفة

مفهوم البداء عند الشيعة وأمثلته والرؤى المنصفة

کپی کردن لینک

مفهوم البداء يعد من القضايا الفكرية المهمة في العقيدة الشيعية، ويتناول هذا المقال آراء علماء الشيعة، مثل السيد الخوئي والسيد كلانتر حول مفهوم البداء وتبعاته على فهم القضاء والقدر، ويبرز المقال الفرق بين العلم الإلهي وعلم المخلوقين، موضحاً أن إنكار البداء قد يؤدي إلى اليأس من إجابة الدعاء، كما يستعرض المقال أمثلة تاريخية ودينية تسلط الضوء على كيفية تجسد البداء في الأحداث، ثم أن السيد كلانتر قسّم مفهوم العلم الإلهي بين العلم الغيبي والحضوري، موضحا دلالات هذا التمييز من خلال النصوص القرآنية والمعاني العميقة المرتبطة بهما.

مفهوم البداء وعلماء الشيعة

قال السيد الخوئي في بحثه عن مفهوم البداء ضمن كتابه البيان في تفسير القرآن: القضاء الحتمي المعبر عنه باللوح المحفوظ وبأم الكتاب والعلم المخزون عند الله، يستحيل أن يقع فيه البداء، فالله سبحانه عالم بالأشياء منذ الأزل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فالقول بالبداء هو الاعتراف بأن العالم تحت سلطان الله وقدرته في حدوثه وبقائه، وإن إرادة الله نافذة في الأشياء أزلا وأبدا.

إن القول بالبداء يتضح الفارق بين العلم الإلهي وبين علم المخلوقين، فعلم المخلوقين – وإن كانوا أنبياء أو أوصياء – لا يحيط بما أحاط به علمه تعالى، فإن بعضا منهم وإن كان عالما – بتعليم الله إياه- بجميع عوالم الممكنات لا يحيط بما أحاط به علم الله المخزون الذي استأثر به لنفسه، فأنه لا يعلم بمشيئة الله تعالى أو عدم مشيئته إلا حيث يخبره الله تعالى.

فالقول بالبداء يوجب انقطاع العبد إلى الله، وطلبه إجابة دعائه وكفاية مهماته، وتوفيقه للطاعة وإبعاده عن المعصية، فأن إنكار البداء والالتزام بأن ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة – دون استثناء – يلزمه يأس المعتقد بهذه العقيدة من إجابة دعائه. فأن ما يطلبه العبد من ربه إن كان قد جرى قلم التقدير بإنفاذه، فهو كائن لا محالة، ولا حاجة إلى الدعاء والتوسل.

وإن كان قد جرى القلم بخلافه لم يقع أبدا، ولم ينفع الدعاء ولا التضرع. وإذا يئس العبد من إجابة دعائه ترك التضرع لخالقه حيث لا فائدة من ذلك. وكذلك الحال في سائر العبادات والصدقات التي ورد عن المعصومين (ع)، إنها تزيد في العمر أو في الرزق أو غير ذلك مما يطلبه العبد.

إن إنكار مفهوم البداء يشترك بالنتيجة مع القول بأن الله غير قادر على أن يغير ما جرى عليه قلم التقدير، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فأن كلا القولين يوئيس العبد من إجابة دعائه، وذلك يوجب عدم توجهه في طلباته إلى ربه.

وقسم السيد محمد كلانتر[1] الصفات الإلهية إلى صفات ذاته وصفات فعله، فالأولى كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر، لا يصح سلبها عن الله تبارك وتعالى مطلقا في أية حالة من الحالات، لأن صفاته هي عين ذاته المقدسة. أما الثانية كالخلق والرزق، فيصح سلبها عن الله عز وجل، فيقال إن الله أراد لهذا العلم، ولم يرده لزيد، وأراد لهذا المال ولم يرده لعمر، وأراد لهذا الأولاد ولم يرده لآخر.

فعلم الله عز وجل غير متناه لعدم تناهي ذاته المقدسة، فلو كان متناهيا لكان محدودا، ولو كان محدودا لكان له ماهية، ولو كان له ماهية لزم أن يكون مخلوقا حادثا.

وقال السيد كلانتر: فالواجب بالذات والممتنع بالذات يستحيل تعلق البداء فيها لعدم قابليتها للتغير والتجدد والتبدل. فالبداء وهو الظهور والبيان يستلزم كل ذلك في الله هز وجل، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وقال: فالبداء وهو الظهور والبيان بعد الخفاء، والعلم بالشيء بعد الجهل به، لا يجري في صفات الذات التي لا يصح سلبها عن الباري عز وجل لأنها ليست قابلة للتجدد والتغير والتبدل، حيث إن هذه الصفات عين ذاته المقدسة. إن البداء بالمعنى الذي ذكرناه من شأنه التجدد والتبدل والتغير، فهذه من لوازمه فلا يعقل تصورها في الذات.

وكذلك لا يتعلق البداء بالأفعال الخارجية بعد تحققها ووقوعها في الخارج، كيف يعقل تصور التجدد والتغير لله فيها للزوم نسبة الجهل إلى الله تبارك وتعالى وعدم انقلاب الشيء عما وقع عليه، كذلك لا يجري البداء في الكتاب الحتمي المعبر عنه باللوح المحفوظ، حيث أن هناك كتابين:

كتاب محفوظ، وهو الذي لا يتغير ولا يتبدل، وهذا مطابق لعلمه تبارك وتعالى فلا بداء فيه، وكتاب محو وإثبات، وهو الذي يتغير ويتجدد ويتبدل، وهذا قابل لوقوع البداء فيه لعدم لزوم شيء مما ذكر فيه، والى الكتابين أشار الرب الجليل في كتابه المجيد: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ، وكذلك لا يجري في القضاء الحتمي، حيث أن هناك قضائين، كما في الأحاديث الشريفة: قضاء لا ينقض وقضاء ينقض، وسمى السيد كلانتر القضائين قدرين فهناك: قدر لا ينقض وهو الحتمي، وقدر ينقض وهو غير الحتمي.

وقال كلانتر: يسند البداء إلى الله عز وجل ويقال: بدا لله في الشيء الفلاني، لأن ما يجري في هذا العالم الملكوتي يكون بإرادة الله عز وجل، لذا تنسب الأفعال الصادرة منا في الخارج إلى الله تعالى، فالإسناد إليه مجازي كقول الموحد: أنبت الربيع البقل. وليس هذا تبديل رأي أو تجديد عزم أو إظهار ندم من إيجاد شيء أو بقاءه، لأن بقاءه كان معلقا على عدم تحقق ذلك الأمر.

غاية الأمر كان المعلق عليه مخفيا على الناس ثم ظهر لهم بفعل الله عز وجل فيقال له البداء، كما في التفدية في قصة إبراهيم الخليل (ع) حيث أن الذبح كان معلقا في بداية الأمر على عدم التفدية، وفي قصة اليهودي الذي تصدق ولم يمت، كان موت اليهودي معلقا على عدم التصدق.

وقال: فالتجدد والتبدل والتغير المحسوس في هذا العالم الجسماني في الحقيقة، يكون في أفعالنا، لا في علم الله عز وجل الذي هو عين ذاته المقدسة. البداء بغير هذا المعنى فلا تعترف به الشيعة الإمامية، ولا تذهب إليه، وتتبرأ منه كبراءة الذئب من دم يوسف عليه السلام، وكذا يتبرأ منه أئمتهم (أئمة أهل البيت)، وهكذا يتبرأ منه أعلامهم من الأفذاذ.

أمثلة حية من مفهوم البداء

وعن التفدية التي قدمها السيد كلانتر مثالا لتأييد رأيه نقول: إن الله تعالى كان عالما بأن إبراهيم وإسماعيل (ع) يمتثلان أمره تعالى بذبح إسماعيل (ع)، وأنه تعالى سيفدي الذبيح بكبش عظيم، ولكنه تعالى أمر وشاء أن لا يحصل ما أمر به، لكي تظهر طاعة إبراهيم وإسماعيل (ع) له تعالى وامتثالهما لأمر الذبح، في أشد البلاء تأثيرا على حياتهما، فيجازيهما بالثواب العظيم في الآخرة.

أما قصة اليهودي الذي تصدق ولم يمت فموجزها: كان الرسول (ص) جالسا مع بعض أصحابه فمر بهم يهودي، فقال الرسول (ص) لأصحابه بأن اليهودي سوف يموت قبل رجوعه، ولكن بعد فترة مر اليهودي عليهم حاملا حطبا، فطلب منه المثول أمام الرسول (ص).

فأمره الرسول (ص) أن يضع رزمة الحطب على الأرض، ثم سأله عما فعل هذا اليوم فقال بأنه رأى مسكينا جائعا فتقاسم معه رغيف الخبز الذي كان معه، فأمره الرسول (ص) أن يفرق أجزاء الحطب، فإذا حية سامة بين الحطب فقال له الرسول (ص) بأن الله عز وجل دفع عنه الموت مسموما بما تصدق به.

وفي أمالي الصدوق[2] ما موجزه عن الإمام الصادق (ع): بأن عيسى (ع) روح الله مر بقوم تزف فيهم عروس فقال (ع) بأن صاحبتهم ميتة في ليلتها، فلما أصبحوا وجدوها على حالها لم يحدث بها شيء، فسألوا عيسى (ع) عن ذلك فقال (ع): يفعل الله ما يشاء فاذهبوا بنا إليها.

فذهبوا فاستأذن عليها فتخدرت فسألها عيسى (ع) عما صنعت في ليلتها فقالت: لم أصنع شيئا إلا وقد كنت أصنعه فيما مضى، إنه كان يعترينا سائل في كل ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها، وإنه جاءني في ليلتي هذه وأنا مشغولة بأمري وأهلي في مشاغل فهتف فلم يجبه أحد، ثم هتف فلم يجب حتى هتف مرارا، فلما سمعت مقالته قمت متنكرة حتى أنلته كما كنا ننيله، فقال (ع) لها: تنحي عن مجلسك، فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة عاض على ذنبه فقال (ع): بما صنعت صرف الله عنك هذا.

وفي القرآن الكريم قصص أخرى يظهر فيها مفهوم البداء واضحا: فالله تعالى أعلم الملائكة بخلق آدم وجعله خليفة في الأرض، فأسكنه وزوجه الجنة ولم يخبرهما بما أخبر به الملائكة، وأمرهما أن لا يقربا شجرة حددها لهما، وشاء تعالى أن ينهى عن عمل وتتم مخالفة النهي، فأخرجهما الله عز وجل من الجنة وأهبطهما إلى الأرض حيث مسكنهما وذريتهما إلى يوم القيامة، أي أن الله تعالى ربط هبوطهما إلى الأرض بالأكل من الشجرة الممنوعة عنهما، وهو العالم بكلا الأمرين، ولم يظهر ذلك لآدم وزوجه عندما أسكنهما الجنة، أي أخفاه عنهما.

وفي قصة موسى (ع)، يظهر مفهوم البداء واضحا في قصته عندما خرج من المدينة خائفا وعاد إليها نبيا، فنبوته (ع) كانت مرتبطة بتكليم الله عز وجل إياه أثناء عودته إلى المدينة، فهو (ع) لم يعلم بنبوته حتى عندما رأى النار، وإنما علم بها بعدما كلفه تعالى بذلك، وكذلك في قصته مع العالم، فكان (ع) يرى إنه أعلم البشر بما آتاه الله تعالى من علمه، ثم عرف بعد مقابلته العالم بأن العالم أعلم منه في علم الغيب الذي خصه الله عز وجل به.

وفي قصة قوم يونس (ع)، يظهر أثر الدعاء والتوبة إلى الله تعالى واضحا، وقد ترك تعالى إخبار يونس (ع) بتوبة أهل نينوى، لكي يفرغه لعبادته في بطن الحوت، كما في حديث للإمام أبي عبد الله (ع)، فقد أرسل الله عز وجل العذاب إليهم ولكنهم عندما رأوا آثارها، وقبل نزولها عليهم طلب منهم العالم الفزع إلى الله لعله يرحمهم فيرد العذاب عنهم فتم ذلك فصرف تعالى عنهم العذاب، كما فصل ذلك الإمامان الباقر والصادق (ع).

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ

قسّم السيد محمد كلانتر العلم الإلهي إلى حصولي وحضوري، فالعلم الحصولي، كما قال: عبارة عن حصول صورة الشيء عند العقل، وهو علم الغيب كما عبر عنه القرآن الكريم، أما العلم الحضوري فهو عبارة عن انكشاف الشيء بتمام ذاته وحقيقته وهويته لدى العالم، كما قال السيد كلانتر، وهو علم الشهادة كما سماه القرآن الكريم.

وقد وردت نصوص أخرى تشير إلى نفس المعنى الذي أشار إليه السيد الخوئي ومنها:

أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ[3].

وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ[4].

إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ[5].

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ[6].

لِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ[7].

قال الإمام علي (ع): لا يقولن أحدكم: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن، فإن الله سبحانه يقول: وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ[8]،[9].

ومعنى ذلك أنه سبحانه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي لقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب، لأن بعضهم يحب الذكور ويكره الإناث، وبعضهم يحب تثمير المال ويكره أنثلام الحال.

هكذا يؤكد (ع) أن الله تعالى أعلم بالناس من أنفسهم، ولكنه تعالى يختبرهم لكي تظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب، فهو تعالى بعلمه للغيب، أعلم بكل مخلوقاته من أنفسهم بما يفعلونه ويكونون عليه في المستقبل، ولكنه سبحانه لا يحاسبهم على أعمالهم بما يعلم عنهم، ولكنه تعالى يحاسبهم بما يفعلونه فعلا، وذلك مختص بعلم الشهادة الذي لا يتحقق إلا بعد وقوع الفعل.

فعلم الغيب الذي استأثر به الله عز وجل لنفسه، لا يحصل فيه البداء مطلقا، وإنما يحصل منه البداء، أي بمعنى إن علم الله تعالى بالغيب يتضمن علمه تعالى لكلا الأمرين، لأن علمه تعالى بالغيب هو واحد لا يتغير بكل تفاصيله منذ الأزل والى الأبد. فعلمه تعالى بما كان وبما يكون وبما هو كائن لا يختلف بين لحظة وأخرى. وهناك نصوص كثيرة في القرآن الكريم أكدت أن الله تعالى قد أظهر بعض علم الغيب بعض عباده: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ[10].

علم الشهادة

علم الشهادة هو علمه تعالى بالأحداث لحظة وقوعها، فالنصوص القرآنية المذكورة سابقا، لا نقول عنها بأن الله عز وجل كان يجهل الأحداث المذكورة في النصوص المقدسة ثم علم بها بعد وقوعها، وإنما نقول بأن الله تعالى كان عالما بها منذ الأزل ولكن علم الشهادة لا يتحقق إلا عند وقوع أو حصول الحدث فعلا، لأن الله تعالى لا يحاسب عباده بما يعلم عنهم بعلم الغيب الذي خص به ذاته المقدسة، وإنما يحاسبهم بما يقومون به من أعمال، فيكون تعالى شاهدا عليهم فلا تغيب عنه غائبة في السموات ولا في الأرض، فتكون الحجة لله عليهم بالغة.

فالله عز وجل يعلم كل ما يقع في الكون من أحداث في لحظة وقوعها، كبيرها وصغيرها، فهو تعالى يعلم مثلا ما يحصل في الشمس والنجوم من تغيير في كمية حرارتها ودرجتها في كل جزء منها، وأي تغيير آخر فيها في لحظة حصوله، ويعلم ما يحصل مثلا، في أجسام المخلوقات كافة وأي تغيير فيها أثناء حصوله، ولكن الإنسان يجهل كل ذلك حتى تظهر العلامات والظواهر والأدلة والأعراض التي تؤكد أو تشير إلى حصول التغيير فيما يستطيع إدراكه ومعرفته.

فمفهوم البداء لا يتحقق إلا بعد حصول ما يكون سببا موجبا لتحققه، فالدعاء والصدقة وأعمال البر والإحسان هي أسباب موجبة لتحقيق الأماني وزيادة الرزق والعمر….الخ، فقد تحقق البداء، كما إن وفاة كل من إسماعيل ومحمد قد حقق البداء في جعل الإمامة في أخ كل منهما، كذلك القول في معصية الخالق فردا وجماعات، معصية جزئية أو كلية، صغيرة أو كبيرة، فأن نتائجها إنزال البلاء والعذاب والكوارث بأنواعها، وتختلف تأثيرا وشدة ونوعا باختلاف المعصية وانتشارها.

الرأي المنصف

إن المنصفين من غير الشيعة، عندما أطلعوا على عقائد الشيعة من كتب علمائهم، ولم يعتمدوا في ذلك على كتب أعداء الشيعة والتشيع، أدركوا حقيقة مفهوم البداء بالمعنى الصحيح الذي يعتقد به الشيعة، فقد كتب الدكتور حامد حفني داود – أستاذ الأدب العربي بكلية الألسن في القاهرة- مقالا بعنوان نقد وتعريف في مجلة النجف[11] الصادرة عن كلية الفقه في النجف، وقال: بأن الأمانة العلمية تقتضي التثبت التام في نقل النصوص والدراسة الفاحصة لها. فكيف لباحث بالغا ما بلغ من المهارة العلمية والفراسة التامة في إدراك الحقائق أن يتحقق من صحة النصوص المتعلقة بالشيعة والتشيع في غير مصادرهم.

وبعد ذلك قال: إن الباحث الذي يريد أن يدرس مجموعة ما من الحقائق في غير مصادرها الأولى ومضامينها الأصلية إنما يسلك شططا ويفعل عبثا، ليس هو من العلم ولا من العلم في شيء، ثم أكد بأن الدكتور أحمد أمين قد وقع في ذلك وورط نفسه في كثير من المباحث الشيعية.

وقال الدكتور حامد: إن كثيرا من المفكرين سفهوا عقول الشيعة في نسبة البداء إلى الله سبحانه، والشيعة الإمامية براء مما فهمه الناس عن البداء، إذ المتفق عليه عندهم وعند علماء السنة إن علم الله قديم منزه عن التغيير والتبديل والتفكير الذي هو من صفات المخلوقين، أما الذي يطرأ عليه التغيير والمحو بعد الإثبات فهو ما في اللوح المحفوظ بدليل قوله تعالى: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ.

وقدم الدكتور داود مثلا لذلك فقال: فلان من الناس كتب عليه الشقاء في مستهل حياته وفي سن الأربعين تاب إلى الله فكتب في اللوح المحفوظ من السعداء، فالبداء هنا: محو أسمه من باب الأشقياء في اللوح وكتابته في باب السعداء. أما ما في علم الله فيشمل جميع تاريخ هذه المسألة من إثبات ومحو بعد التوبة، أي أنه سبق في علم الله إن هذا الشخص سيكون شقيا ثم يصير سعيدا في وقت كذا حين يلهمه التوبة.

إن مفهوم البداء الذي يقول به الإمامية هو قضية الحكم على ظاهر الفعل الإلهي في مخلوقاته بما تتطلبه حكمته، فهو قول بالظاهر المتراءى لنا، وإذن فوجه الإشكال في الذين خطئوا الشيعة في قولهم بالبداء، إنما جاء من زعمهم أن الشيعة ينسبون البداء إلى علم الله القديم، لا إلى ما في اللوح المحفوظ.

ثم أكد الدكتور داود بأن: في تفكيرهم ـ أي: الشيعة ـ من عمق في الحكم لأن معنى البداء – في نظري – إن الله سبحانه يطور خلقه وفق مقتضيات البيئة والزمان اللذين خلقهما وأودع فيهما سر التأثير على خلقه – ولو ظاهرا – إن القول بالبداء هو المقالة الوحيدة التي نستطيع بهديها أن تفسر لك سر الناسخ والمنسوخ في القرآن، كالحكمة فيما ورد من آيات تحريم الخمر وكيف تدرج ذلك بالتحريم في صورة مراحل ليعالج سبحانه بذلك اعوجاج النفس البشرية ويخلصها من قيود العادة المستحكمة شيئا فشيئا حتى يتحقق لهذه النفس صلاحها، ولو حرمها مرة واحدة لكان في ذلك ما فيه من مشقة على النفس، فذلك هو اعتقاد الإمامية في البداء.

إن هذا الرأي المنصف الذي قدمه الدكتور حامد حفني داود، يمثل قمة الأمانة العلمية والحياد الملتزم وعدم الإساءة للآخرين لمجرد الاختلاف في العقائد، وقد التزم به الدكتور داود بعيدا عن الأهواء المذهبية والأحقاد الشخصية والتعصب الأعمى الذي هو مذهب البنداري وأمثاله.

ختامه مسك

من كل ذلك نستنتج أن المحو والإثبات الذي ورد في القرآن الكريم، ومفهوم البداء الذي تقول به الشيعة الإمامية لفظان أو مصطلحان لمفهوم واحد لا يختلفان في التفاصيل، فوحدة المفهوم لهذين اللفظين تؤكد وحدة الفكر الإسلامي بين مختلف مذاهبه، فاختلاف اللفظ لا يستوجب توجيه النقد إلى الشيعة، إلا من كان يبغي من وراء ذلك خلق فتنة وتفريق وحدة المسلمين، بتزوير الحقائق وبث الأكاذيب بهتانا لتشويه سمعة أحد المذاهب الإسلامية الكبرى عند المسلمين خدمة لأعداء الإسلام.

إذا تم استثناء من حدد آية المحو والإثبات بزمن الرسالة فقط، وأنكر زيادة ونقص الأعمار، من أمثال البنداري، فأن المسلمين قد أجمعوا على أن المراد بآية المحو والإثبات هو التغيير، أي أن شيئا لم يكن ثم كان، وأن سبب التغيير هو الدعاء والصدقة وصلة الأرحام وسائر أعمال البر والإحسان، لأن لمثل هذه الأعمال آثارا دنيوية إيجابية، أي إن الله تعالى يستجيب الدعاء فتتحقق الأماني والحاجات والطلبات ويدفع ميتة السوء وتزيد الأعمار والأرزاق.

إن هذا يفسر اتجاه الناس إلى الإلحاح بالدعاء وطلب قضاء الحاجات من الله تعالى، ولكن البعض استثنى الشقاء والسعادة من ذلك، ولكن سنة الرسول (ص) وأدعية بعض الصحابة تؤكدان أن التغيير عام في كل شيء، ومن ضمن ذلك الشقاء والسعادة. وقد عد بعض المفكرين ربط سعادة وشقاء الفرد والمجتمع بما يقومون به من أعمال البر والإحسان وأعمال الغدر والشر، إنما هو تكريم للإنسان والمجتمع الإنساني الذي قضاه الله تعالى لهم دون بقية مخلوقاته.

وقد وقع الخلاف في التسمية فقط دون مفهوم الفكرة، فالبعض أدرجها ضمن مفهوم النسخ لأنه يرتبط بمصالح العباد لحكم إلهية، ولكن القرآن الكريم فرق بين النسخ وبين المحو والإثبات، فخصص النسخ بالأحكام الشرعية في آيات القرآن الكريم فقط، وفهمه آخرون بأنه قضاء إلهي وفسروه كما يفسر القضاء.

بينما انفرد الشيعة الإمامية بتسميته بالبداء، لأنهم عدوه يرتبط بمسألة الحدوث والتغيير في عالم التكوين الذي يتخذ صفة الظهور بعد الخفاء. إن الاختلاف بالتسمية كان نقطة الخلاف الوحيدة التي استغلها القدماء في نقد الشيعة، وتابعهم كثير من اللاحقين والمعاصرين زاعمين أقوالا وأراء لم يقلها أئمة وعلماء الشيعة الإمامية الإثنى عشرية، ومنها الادعاء بأن الشيعة تنسب الجهل إلى الله تعالى، ولكن كل علماء الشيعة وكتبهم ينفون ذلك نفيا قاطعا، وتؤكد بأن الله عز وجل يعلم كلا الأمرين، ولكن لله في خلقه شؤون.

للاطلاع على المزيد مما كتبه نفس الكاتب حول هذا الموضوع، يُرجى الضغط على الرابطين التاليين:

مفهوم البداء في القرآن والسنة وأثره في القضاء الإلهي

فكرة البداء في الفكر الشيعي ليست فكرة يهودية

الاستنتاج

أن مفهوم البداء في العقيدة الشيعية يُعبر عن قدرة الله على تغيير ما هو مُقدر في اللوح المحفوظ، مما يبرز تفاعل الإرادة الإلهية مع أفعال البشر وأهمية الدعاء والعبادات في تغيير الأقدار، ويُظهر المقال أيضا الفارق بين علم الله القديم الذي لا يتغير، وعلم المخلوقين المحدود، كما يُشير إلى أن إنكار البداء قد يؤدي إلى اليأس من استجابة الدعاء، مما يتعارض مع روح الإيمان والاعتماد على الله.

الهوامش

[1] كلانتر، البداء عند الشيعة الإمامية، ص57.

[2] الصدوق، الأمالي، 449.

[3] آل عمران، 144.

[4] البقرة، 143.

[5] سبأ، ۲۱.

[6] محمد، ۳۱.

[7] المائدة، 94.

[8] الأنفال، 28.

[9] الشريف الرضي، نهج البلاغة، ص619، حكمة ۸۸.

[10] الجن، 26ـ 27.

[11] مجلة النجف، عدد 4، شعبان ۱۳۸۲ه‍، ص56.

مصادر البحث

1ـ القرآن الكريم.

2ـ الشريف الرضي، محمّد، نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، بيروت، الطبعة الأُولى، 1387 ه‍.

3ـ الصدوق، محمّد، الأمالي، قم، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، الطبعة الأُولى، 1417 ه‍.

4ـ كلانتر، محمّد، البداء عند الشيعة الإمامية، النجف، منشورات جامعة النجف الأشرف، 1975م.

5ـ كلّية الفقه، مجلّة النجف، النجف، طبعة ۱۳۸۲ه‍.

مصدر المقالة (مع تصرف)

الكاتب: سعد حاتم مرزه