تعدُّ مكانة أهل البيت (ع) في الإسلام من القضايا المحورية التي تستحق التأمل والدراسة، فقد كانت هذه المكانة موضع اهتمام كبير قبل وبعد واقعة الغدير، إذ إن هذه الواقعة لم تكن إلا تعبيرا عن اصطفائهم ونصبهم هداةً للأمة، حيث جاء ذلك في سياق التاريخ الإسلامي قبل وفاة النبي محمد (ص) بشهرين، مما يجعل السؤال حول مكانتهم الدينية قبل هذا الحدث مثيرا للاهتمام، ونستكشف في هذه المقالة الأبعاد المختلفة لمكانة أهل البيت (ع) من خلال النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، ونعرض كيف أسهم الإمام علي (ع) في إحياء هذا المبدأ خلال خلافته، مما ترك أثرا عميقا على المجتمع الإسلامي.
مكانة أهل البيت قبل خطبة الغدير
إن مكانة أهل البيت (ع) عند الله وعند رسوله (ع) لم تحدث عند واقعة الغدير، ولكن هذه الواقعة أعلنت عن اصطفائهم ونصبهم هداة للأمة من بعده (ص).
توضيح ذلك: أن واقعة الغدير حدثت قبيل وفاة النبي (ص) وقد أعلن بنفسه في خطبتها عن قرب وفاته، وكانت قبلها بنحو من شهرين ونصف.
وعليه يقع السؤال عن مكانة أهل البيت (ع) في الدين قبل هذه الواقعة.
والاحتمالات التي تخطر في الذهن بدواً ثلاثة:
الاحتمال الأول
أن هذه الخطبة أسست لمكانة أهل البيت من غير أن يكون لهم مكانة سابقة قبل ذلك.
الاحتمال الثاني
أن هذه الخطبة كانت مجرد تأكيد – ولكن في المشهد الجماهيري العام – لنصوص سابقة متلاحقة تفيد مفاد هذه الخطبة في حق أهل البيت (ع) والإمام (ع).
والوجه في ذلك أن ما يدل على اصطفاء أهل البيت (ع) لا يختص بحديث الثقلين في ضمن خطبة الغدير، فهناك آيات وأحاديث أخرى تدل على اصطفائهم بمستويات متعددة من الدلالة من جملتها على سبيل المثال ما تكرر ذكره من النصوص الثابتة:
۱. آية التطهير التي نزلت في السنة الخامسة للهجرة على الأغلب، وهي قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تطْهِيرًا[1] بضميمة الحديث المتفق عليه في تحديد أهل البيت (ع) بالإمام علي (ع) وفاطمة والحسنين (ع)[2].
٢. حديث النبي محمد المصطفى (ص) في تعليم صيغة الصلاة عليه عند نزول قوله تعالى – في السنة الخامسة للهجرة على الأغلب: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[3]، حيث تضمن سؤال الله سبحانه أن يصلي ويترحم ويبارك عليه وعلى آله معاً كما صلّى سبحانه وترحم وبارك على إبراهيم وآل إبراهيم، وقد علم أن صلاة الله سبحانه ورحمته وبركاته على آل إبراهيم كانت اصطفاءهم وإتيانهم الكتاب والحكم والملك، قال تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا[4].
3ـ آية المباهلة التي نزلت على الأغلب في السنة الثامنة للهجرة النبوية، وقد خصت المباهلة بأنفسنا وأبنائنا ونسائنا، وعلم من السنة النبوية أنها تعني الإمام عليا وفاطمة والحسنين (ع).
ومنها ما جاء في شأن آحاد أهل البيت (ع) والتي اختصت بالإمام علي (ع) أو بفاطمة الزهراء أو بالحسنين (ع)، وجملة منها متفق عليها، وقد تضمنت قرن هؤلاء بالنبي (ص) أو جعلهم من نفسه أو قرنهم بالمصطفين من الأمم السابقة، أو الثناء عليهم أو التوصية لهم بشكل مميز، ولذكرها وتوضيحها موضع آخر.
الاحتمال الثالث
وقد يرجح على الاحتمالين الأوليين، أن هذه الخطبة لم تؤسس لمكانة أهل البيت (ع) واصطفائهم، فهم كانوا قد اختيروا من قبل الله ورسوله كالمصطفين من قبل بدليل النصوص التي وردت في حقهم قبل خطبة الغدير وخطبة عرفات – على ما يعلم بالنظر إلى التاريخ المتوقع لها من خلال أحداث السيرة وآيات القرآن الكريم – إلا أن خطبة الغدير – ومن قبلها خطبة عرفات – تميزت بأنها تضمنت الإعلان الصريح عن اصطفائهم وعن نصبهم هداة للأمة في الدين، وإيجاب التمسك شرعاً بهم من بعده (ص)، وهذا المعنى – أي تعيينهم هداة للأمة من بعده – لا يفي به شيء من النصوص المؤرخة أو التي يتوقع تاريخها بما قبل حجة الوداع.
وعليه كانت هناك مرحلتان في شأن مكانة أهل البيت (ع):
المرحلة الأولى
هي مرحلة الثناء المميز على أهل البيت (ع) بمعنى أن الله عز وجل ورسوله (ص) أثنيا عليهم ثناء خاصاً وبمفردات وجمل مميزة لهم عن سائر الأمة من الأصحاب والأنصار والقرابة بما يلوح باصطفائهم من هذه الأمة من غير أن يكون هناك تكليف خاص للأمة بالتمسك بهم والاهتداء بهديهم، وإنما كان هذا النصب – التكليف – بالنظر إلى قرب وفاة النبي (ص) فأحلهم (ص) محله وألزم بالتمسك بهم.
وقد كان هذا الثناء المميز على أهل البيت (ع) طوراً بعنوان أهل البيت وطوراً آخر بآحادهم وهم الإمام علي وفاطمة والحسنان (ع).
أما الثناء على أهل البيت (ع) بهذا العنوان أو بما معناه، فإنه بدأ تقريباً منذ السنة الرابعة للهجرة؛ وذلك لأن هذا العنوان الذي كان يعني هؤلاء الأربعة إنما نشأ بعد ولادة الحسن والحسين (ع) كما نشهد ذلك في آية التطهير التي تقع في سورة الأحزاب والتي نزلت على الأرجح في السنة الخامسة للهجرة تقريباً، وقد طبقها النبي (ص) في حديثه المعروف حول الآية على الإمام علي وفاطمة والحسنين (ع).
ويلائم ذلك ما جاء في آية المباهلة التي نزلت على الأغلب في السنة الثامنة للهجرة وجعلت المباهلة مع أنفسنا ونسائنا وأبنائنا وقصرتهم على هؤلاء الأربعة دون سائر قرابته (ص) وأزواجه وأصحابه.
وعليه فإن كل النصوص التي تتحدث عن أهل البيت (ع) أو ما بمعناه وتثني عليهم ثناء خاصاً ومميزاً أو تدل على خصوصيتهم بين هذه الأمة – مثل آية التطهير وآية المباهلة وحديث النبي (ص) في صيغة الصلاة عليه – تقع منذ السنة الرابعة للهجرة تقريباً.
فهذا عما جاء من الثناء المميز والخصوصية الخاصة لعنوان أهل البيت (ع) على سائر الأمة.
وأما الثناء المميز على أحاد أهل البيت (ع) وهم الأربعة المذكورون:
فالثناء على الإمام علي بن أبي طالب (ع) يبدأ منذ بعثته (ع) كما حكاه الإمام علي (ع) في خطبه في نهج البلاغة، كما أن الإخاء والاستيزار اللذين تحققا منذ البداية مضافاً إلى مضمونهما الخاص يدلان على الثناء المميز على الإمام (ع)، وقد استمر الثناء على الإمام علي (ع) في العهد المدني بوجوه مختلفة وفي مناسبات مختلفة مثل المواقف المميزة للإمام (ع) في نصرة النبي (ص) في حروبه أو غير ذلك، ومنها على سبيل المثال:
1ـ قوله (ص) يوم غزوة خيبر: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كراراً غير فرار، لا يخيبه الله[5].
2ـ قول جبرئيل عندما بعث النبي (ص) أبا بكر بسورة البراءة في السنة الثامنة: لا يؤدي إلا أنت أو رجل منك.
كما كان هناك ثناء مميز من النبي (ص) على ابنته فاطمة (س) ولا سيما منذ تزويجها من الإمام علي (ع)، وهو ثناء يبدو أنه كان يزداد كلما اقترب النبي (ص) إلى أواخر أيامه[6].
وكذلك صدر منه (ص) ثناء مميز وأوامر خاصة بالمودة في شأن الحسنين (ع) منذ ولادتهما[7].
وهكذا كانت المرحلة الأولى في شأن أهل البيت (ع) إبراز مكانتهم وهي تميزهم عند الله تعالى وعند رسوله (ص).
المرحلة الثانية
فكانت الإعلان عن نصب أهل البيت (ع) أعلاماً للهداية وإيجاب التمسك بهم كسبيل منحصر للوقاية من الضلالة والتأكيد على أن المرء غداً مسؤول عند الحوض عن التمسك بهم من عدمه.
وذلك ما تحقق بعد حجة الوداع في يوم الغدير قبيل وفاته (ص) بشهرين وأيام.
وعليه فالفارق بين حديث الثقلين في خطبة الغدير وسائر ما يدل على امتياز أهل البيت (ع) من قبل أن سائر ما ورد في حقهم قبل واقعة الغدير كان يقتصر على ذكر امتيازهم وقد يوصي بحبهم، ولكن خطبة الغدير فرعت على هذا الامتياز إيجاب التمسك بهم ونصبهم أعلاماً هداة للأمة.
هذا، وإن الالتفات إلى سائر النصوص في حق أهل البيت (ع) قبل هذه الواقعة يساعد على فهم فقرة الثقلين في خطبة النبي (ص)، ويكون قرينة على المقصود بها، فإن الأقوال المتعلقة بموضوع واحد يكون بعضها قرينة على بعض، ويرفع عنها شوائب الشك والإبهام.
إحياء الإمام علي في خلافته لمبدأ صيانة أهل البيت
إن الإمام علياً (ع) عند توليه الخلافة اجتهد في إحياء هذه الوصية النبوية في خطبه التي ألقاها في الكوفة على مسامع المسلمين وقد أثر جملة منها في التاريخ بشكل واضح وبين ورواه الثقات.
وجمع الشريف الرضي في نهج البلاغة جملة منها، وأحاديثه (ع) هذه هي التي أدت إلى انتشار التشيع في الكوفة والبناء على مرجعية أهل البيت (ع) في الدين وفي الحكم، ثم انتشر ذلك منها إلى سائر الأمصار.
وعلى ذلك جرت عترته من بعده، وقد اتفقوا على الرجوع بعده إلى الإمام الحسن (ع) ثم الإمام الحسين (ع) بالنظر إلى التنصيص على مكانتهما في الأحاديث النبوية المعروفة عند المسلمين، واختلفوا من بعدهم بين فريق بنى على أولوية الثورة، فمن ثار ضد الحكم كان أولى، وبين فريق يرى أولوية العلم والسداد، وهو ما جرى عليه الإمام الباقر والصادق وذريتهم من الأئمة القادة الذين يرجع إليهم الشيعة الإمامية.
فالإمام (ع) يكرر دائماً – بمناسبات مختلفة مثل حث الناس على مطاوعته في تعامله مع الشبهات والفتن واختياره للحرب والسلم – على أن من الواجب على الأمة أن يلزموا سمت أهل البيت (ع) واتجاههم في الأمور، لأنهم لن يجيدوا عن الهدى والحق ولن يقعوا في الباطل والضلالة.
ومن نماذج ذلك قوله (ع) في خطبة له – وهي بعد خلافته واستقرار الأمور له في الكوفة – بعد حمد الله سبحانه في الثناء على رسوله (ص):
أَرْسَلَه بِأَمْرِهِ صَادِعاً، وبِذكْرِه نَاطِقاً، فَأَدَّى أَمِيناً، ومَضَى رَشِيداً، وخَلَّفَ فِينَا رَايَةَ الْحَقِّ، مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ ومَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ، وَمَنْ لَزِمَهَا حَقَ، دَلِيلُهَا مَكِيثُ الْكَلَام بَطِيءُ الْقِيَامِ، سَرِيعُ إِذَا قَامَ، فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَكُمْ، وَأَشَرْتُمْ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِكُمْ، جَاءَهُ الْمَوْتُ فَذَهَبَ بِهِ.
فَلَبِثْتُمْ بَعْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهِ، حَتَّى يُطْلِعَ الله لَكُمْ مَنْ يَجْمَعُكُمْ ويَضُمُّ نَشْرَكُمْ، فَلَا تَطْمَعُوا فِي غَيْرِ مُقْبِلِ، وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ مُدْبِرِ، فَإِنَّ الْمُدْبِرَ عَسَى أَنْ تَزِلُّ بِهِ إِحْدَى قَائِمَتَيْهِ، وَتَثْبَتَ الْأُخْرَى فَتَرْجِعَا حَتَّى تَبنَا جَمِيعاً، أَلَا إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ (ص) كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ، إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ، فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اللهِ فِيكُمُ الصَّنَائِعُ، وَأَرَاكُمْ مَا كُنتُمْ تَأْمُلُونَ[8].
الاستنتاج
أن مكانة أهل البيت (ع) كانت راسخة قبل واقعة الغدير، حيث إن هذه الواقعة لم تكن بداية لتلك المكانة، بل كانت إعلانا رسميا عن اصطفائهم ونصبهم هداةً للأمة، وتشير المقالة إلى وجود نصوص قرآنية وأحاديث نبوية تعزز مكانتهم، مثل آية التطهير وحديث الثقلين، مما يدل على أنهم كانوا مصطفين من قبل الله ورسوله، كما تسلط الضوء على دور الإمام علي (ع) في إحياء مبدأ صيانة أهل البيت بعد توليه الخلافة، مما ساهم في نشر التشيع وتعزيز مرجعية أهل البيت في الدين والحكم.
الهوامش
[1] الأحزاب، ٣٣.
[2] الترمذي، سنن الترمذي، ج5، 30.
[3] الأحزاب، ٥٦.
[4] النساء، ٥٤.
[5] لاحظ: ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج٤١، ص219.
[6] لاحظ: البخاري، صحيح البخاري، باب مناقب فاطمة، ج4، 219.
[7] هناك نماذج كثيرة، منها: قوله (ع): الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، الترمذي، سنن الترمذي، ج5، ص321.
[8] الشريف الرضي، نهج البلاغة، ص١٤٥.
مصادر البحث
1ـ القرآن الكريم.
2ـ ابن عساكر، علي، تاریخ مدينة دمشق، تحقيق علي شيري، بيروت، دار الفكر، طبعة 1415 ه.
3ـ البخاري، محمّد، صحيح البخاري، دار الفكر، طبعة 1401ه.
4ـ الترمذي، محمّد، سنن الترمذي، بيروت، دار الفكر، الطبعة الثانية، طبعة 1403 ه.
5ـ الشريف الرضي، محمّد، نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، بيروت، الطبعة الأُولى، 1387 ه.
مصدر المقالة (مع تصرف)
السيستاني، محمد باقر، واقعة الغدير ثبوتها ودلالاتها، الطبعة الثانية، 1444 ه، بلا تاريخ، ص281 ـ ص295.