كان سلوك الإمام زين العابدين (ع)، كأخلاق وسلوك آبائه الطاهرين، مصدر إشعاع وهداية للناس، فقد حرص في تصرفاته على السير على منهج جده الإمام أمير المؤمنين (ع)، مقتديا بسيرته وهديه (ع).
ويقول الرواة: إنه كان يمعن في قراءة سيرة جده أمير المؤمنين (ع) حينما تجهده العبادة، فيتنفس الصعداء، ويقول بحسرات: أَيْنَ عِبادَتِي مِنْ عِبَادَةِ جَدَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
نتحدث عن بعض مظاهر سلوكه وسيرته:
سيرة الإمام زين العابدين في بيته
كان الإمام زين العابدين (ع) من أرأف الناس وأبرهم وأرحمهم بأهل بيته، وكان لا يتميز عليهم، بل كان كأحدهم، وأثر عنه أنه قال: لأَنْ أَدْخُلَ السَّوقَ وَمَعِي دَرَاهِمُ أَبْتَاعُ لِعِيالي لَحْماً، وَقَدْ قَرِموا[1] أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ نَسَمَةٌ[2].
وكان يبكر في خروجه صبحاً لطلب الرزق لعياله، فقيل له: أين تذهب؟
فقال: أَتَصَدَّقُ لِعيالي مِنْ طَلَبِ الْحَلالِ، فَإِنَّهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَدَقَةٌ عَلَيْهِم[3].
وكان يعين أهله في حوائجهم البيتية، ولا يأمر أحداً منهم فيما يرجع إلى أي شأن من شؤونه الخاصة، كما كان يتولى بنفسه خدمة نفسه، خصوصاً فيما يرجع إلى شؤون عبادته، فإنه لم يك يستعين أو يعهد بها إلى أحد في قضائها.
لقد سار (ع) في بيته سيرة لم ير الناس مثلها، فقد تمثلت فيها الرحمة والتعاون والرأفة ونكران الذات.
بر الإمام زين العابدين بمربيته
وبعد أن كبر الإمام زين العابدين (ع) علم بموت أمه، وأدرك أن ما أسدته إليه هذه المربية الصالحة من ألوان البر والإحسان، إنما كان خدمة له وتقرباً إلى الله تعالى، فقابل (ع) ذلك المعروف بكل ما تمكن عليه من أنواع الإحسان، وقد بلغ من جميل بره بها أنه امتنع أن يواكلها فلامه الناس، وأخذوا يسألونه بإلحاج قائلين: أنت أبر الناس، وأوصلهم رحماً فلماذا لا تؤاكل أمك؟
فأجابهم جواب من لم تشهد الدنيا مثل أدبه وكماله قائلاً: أَخْشَى أَنْ تَسْبِقَ يَدي إِلَى مَا سَبَقَتْ عَيْنُها إِلَيْها فأكون قد عققتها[4].
رواية موضوعة
ذكر ابن كثير رواية لا أساس لها من الصحة، فقد روى أن الإمام زين العابدين (ع) زوج أمه من مولى له، وأعتق أمة فتزوجها، فأرسل إليه عبد الملك يلومه في ذلك، فكتب إليه: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[5].
وقد أعتق صفية فتزوجها، وزوّج مولاه زيد بن حارثة من بنت عمه زينب بنت جحش[6].
أما صدر الرواية دون ذيلها فهو مفتعل، والذي يدلل عليه ما يلي:
أولاً: إن السيدة أم الإمام زين العابدين (ع) توفيت في نفاسها، وقد ذكر ذلك جمهور المؤرخين والرواة.
ثانياً: إن الإمام علي الرضا (ع) صرح بذلك في حديثه مع سهل بن القاسم النوشجاني، فقد قال له: إِنَّها – أي أم الإمام علي بن الحسين – ماتتْ في نفاسها فَكَفَلَهُ بَعْضُ أُمَّهَاتِ وَلَدِ أَبِيهِ، فَسَمَاهَا النَّاسُ أُمَّهُ، وَإِنَّمَا هِيَ مَوْلاتُهُ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ زَوَّجَ أُمَّهُ، وَمَعَاذَ اللَّهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا زَوَّجَ هَذِهِ.
قال سهل: ولم يبق طالب بخراسان إلا كتب هذه عن الرضا (ع)[7].
إن مصدر هذه الرواية لا أساس له من الصحة مطلقاً، وأما عتق الإمام لبعض مملوكاته وزواجه بها، فأمر يتفق مع روح الإسلام وهديه، ولا مانع منه.
سيرة الإمام زين العابدين مع أبويه
كان (ع) من أبر الناس بأبيه ومربيته، فقد خفض لهما جناح المودة والرحمة، ولم تبق مبرة ولا خدمة إلا قدمها لهما.
وبلغ من عظيم بره لأبيه أنه طلب من عمته زينب بطلة كربلاء في يوم الطف أن تزوده بالعصا ليتوكأ عليها، والسيف ليذب به عن أبيه في حين أن المرض قد فتك به فلم يتمكن أن يخطو خطوة واحدة على الأرض، إلا أن عمته صدته عن ذلك لئلا تنقطع ذرية النبي (ص)، فأي مبرة مثل هذه المبرة؟
ومن خدماته لأبيه أنه قام بعد شهادته بتسديد ما عليه من الديون الضخمة التي كان قد أنفقها على البؤساء والمحرومين، ومن مبراته لأبويه دعاؤه لهما.
دعاء الإمام زين العابدين لأبويه
أما دعاء الإمام زين العابدين (ع) لأبويه فهو من ألمع القواعد في التربية الإسلامية الهادفة إلى إصلاح الأسرة وسعادتها، وشيوع المحبة والاحترام بين أفرادها.
ومن الطبيعي أن الأسرة إذا صلحت صلح المجتمع بأسره، وإذا فسدت فسد المجتمع كذلك، لأنها الخلية الأولى في بناء المجتمع وتكوينه، وفيما يلي نص هذه اللوحة الذهبية من دعائه:
اللَّهُمَّ صَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَاخْصُصْهُمْ بِأَفْضَلِ صَلَواتِكَ وَرَحْمَتِكَ، وَبَرَكَاتِكَ وَسَلَامِكَ.
وَاخْصُصِ اللَّهُمَّ وَالِدَيَّ بِالْكَرَامَةِ لَدَيْكَ، وَالصَّلَاةِ مِنْكَ يَا أَرْحَمَ الراحمين.
اللَّهُمَّ صَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأَلْهِمْني عِلْمَ مَا يَجِبُ لَهُمَا عَلَيَّ إِلْهَاماً، وَاجْمَعْ لِي عِلْمَ ذَلِكَ كُلِّهِ تَمَاماً، ثُمَّ اسْتَعْمِلْنِي بِمَا تُلْهِمُنِي مِنْهُ، وَوَفِّقْنِي لِلنُّفُوذِ فِيمَا تُبَصِّرُنِي مِنْ عِلْمِهِ، حَتَّى لَا يَفُوتَنِي اسْتِعْمَالُ شَيْءٍ عَلَّمْتَنِيهِ، وَلَا تَثْقُلَ أَرْكَانِيَ عَنِ الْحُفُوفِ فِيمَا أَلْهَمْتَنِيهِ.
ومثلت هذه الكلمات المشرقة سمو آداب الإمام (ع) ومعالي أخلاقه، ومدى احترامه لأبويه، فقد دعا لهما الله أن يخصهما بالفضل والكرامة لديه، وأن يلهمه تعالى ما يجب لهما من الحقوق ليقوم بأدائها، وأن لا يثقله عن أدائها.
ولنستمع إلى قطعة أخرى من دعائه (ع) لهما: اللَّهُمَّ صَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ كَمَا شَرَّفْتَنا بِهِ، وَصَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ كَمَا أَوْجَبْتَ لَنَا الْحَقَّ عَلَى الْخَلْقِ بَسَبَبِهِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أَهابُهُما هَيْبَةَ السُّلْطَانِ الْعَسُوفِ، وَأَبَرُّهُما بِرَّ الْأُمِّ الرَّؤُوفِ، وَاجْعَلْ طَاعَتِي لِوالِدَيَّ، وَبِرِّيَ بِهِما أَقَرَّ لِعَيْنِي مِنْ رَقْدَةِ الْوَسْنَانِ، وَأَثْلَجَ لِصَدْرِي مِنْ شَرْبَةِ الضَّمَانِ، حَتَّى أُوثِرَ عَلَى هَوَايَ هَواهُما، وَأُقَدِّمَ عَلَى رِضايَ رِضَاهُما، وَأَسْتَكْثِرَ بِرَّهُما بِي وَإِنْ قَلَّ، وَأَسْتَقِلَّ بِرَى بِهِمَا وَإِنْ كَثُرَ.
وليس في دنيا البر والإحسان للأبوين مثل ما ذكره الإمام زين العابدين (ع) في هذه الفقرات لأبويه، فقد سأل من الله تعالى أن يمنحه المزيد من الهيبة لهما ليطيعهما ولا يخالفهما، وأن يبرهما بر الأم الرؤوف لولدها، وأن يؤثر هواهما على هواه، ويقدم رضاهما على رضاه، وأن يشكر ما أسدياه إليه من البر والإحسان، وأن يستقل بره لهما.
ومن الطبيعي أن مثل هذه الآداب من الأبناء تجاه آبائهم مما ينسيهم متاعب الحياة وآلام الشيخوخة، كما توجب سعادة الأسرة، وازدهار الحياة الاجتماعية، ونعود إلى مواصلة ذكر الفقرات المشرقة من دعاء الإمام زين العابدين (ع) لأبويه.
اللَّهُمَّ خَفِّضْ لَهُمَا صَوْتِي، وَأَطِبْ لَهُمَا كَلامي، وَأَلِنْ لَهُمَا عَرِيكَتي، وَأَعْطِفْ عَلَيْهِمَا قَلْبِي، وَصَيِّرْنِي بِهِما رَفِيقاً، وَعَلَيْهِما شَفِيقاً.
اللَّهُمَّ اشْكُرْ لَهُمَا تَرْبِيَتِي، وَأَثِبهُمَا عَلَى تَكْرِمَتِي، وَاحْفَظْ لَهُمَا ما حَفِظَاهُ مِنِّي فِي صِغَري.
اللَّهُمَّ وَمَا مَسَّهُما مِنَى مِنْ أَذىً، أَوْ خَلَصَ إِلَيْهِمَا عَنِّى مِنْ مَكْرُوهِ، أَوْ ضاع قبلي لَهُما مِنْ حَقٌّ، فَاجْعَلْهُ حِطَّةً لِذُنُوبِهِمَا، وَعُلُوّاً فِي دَرَجَاتِهِما، وَزِيادَةً فِي حَسَنَاتِهِما، يا مُبَدِّلَ السَّيِّئَاتِ بِأَضْعَافِهَا مِنَ الْحَسَناتِ.
ومثلت هذه القطعة آداب أهل البيت (ع)، وسمو تربيتهم، فقد ذكر الإمام (ع) فيها حقوقاً للوالدين، وهي:
1- أن يخفض الولد صوته أمام أبويه، ولا يعلو به عليهما.
2- أن يطيب لهما عريكته، ولا يقابلهما بالشدة والقسوة.
3- أن يملأ قلبه عطفاً وحناناً ومودة لهما.
4- الدعاء لهما بالمغفرة والرضوان على ما أسدياه إليه من المعروف واللطف أيام صغره عندما كان في أمس الحاجة إلى رعايتهما وتربيتهما.
5- الطلب من الله أن يكتب لهما المزيد من الأجر على ما مسهما من الأذى، وخلص إليهما من المكروه أو التقصير في أداء حقوقهما من قبله، وليس في عالم التربية المثالية مثل هذه الآداب التي يسمو بها الإنسان وتزدهر بها حياته.
ولنستمع إلى قطعة أخرى من كلامه (ع):
اللَّهُمَّ وَمَا تَعَدَّيا عَلَيَّ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ، أَوْ أَسْرَفًا عَلَيَّ فِيهِ مِنْ فِعْلٍ، أَوْ ضَيَّعَاهُ لِي مِنْ حَقٌّ، أَوْ قَصَّرا بِي عَنْهُ مِنْ وَاجِبِ، فَقَدْ وَهَبْتُهُ لَهُمَا، وَجُدْتُ بِهِ عَلَيْهِمَا، وَرَغِبْتُ إِلَيْكَ فِي وَضْعِ تَبِعَتِهِ عَنْهُمَا، فَإِنِّي لَا أَنَّهِمُهُما عَلَى نَفْسِي، وَلَا أَسْتَبْطِنُهُما فِي بِرِّي، وَلَا أَكْرَهُ مَا تَوَلَّيَاهُ مِنْ أَمْرِي يَا رَبِّ، فَهُما أَوْجَبُ حَقًّا عَلَيَّ، وَأَقْدَمُ إِحْساناً إِلَيَّ، وَأَعْظَمُ مِنَّةً لَدَيَّ مِنْ أَنْ أُقاصَّهُما بِعَدْلٍ، أَوْ أُجَازِيَهُمَا عَلَى مِثْلٍ.
أَيْنَ إِذا يا إلهي طُولُ شُغْلِهِما بِتَرْبِيَتِي، وَأَيْنَ شِدَّةُ تَعَبِهِما في حراستي، وَأَيْنَ إِقْتَارُهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا لِلتَّوْسِعَةِ عَلَيَّ. هَيْهاتَ مَا يَسْتَوْفِيانِ مِنِّي حَقَّهُما، وَلَا أُدْرِكُ مَا يَجِبُ عَلَيَّ لَهُمَا، وَلَا أَنَا بقاضٍ وَظِيفَةَ خِدْمَتِهِما.
فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأَعِنِّي يَا خَيْرَ مَنِ اسْتُعِينَ بِهِ، وَوَفِّقْنِي يا أَهْدِى مَنْ رُغِبَ إِلَيْهِ، وَلَا تَجْعَلْنِي فِي أَهْلِ الْعُقُوقِ لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ يَوْمَ تُجْرَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[11].
إن هذه التربية العلوية إنما هي نفحة من روح الله لتكون مناراً إلى الأمم والشعوب لترفع من قيمة الإنسان، وتسمو به إلى عالم الملكوت.
لقد عرض هذا الإمام المربي إلى أن الواجب يحتم على الأبناء أن يسامحوا آباءهم على ما يصدر منهم من تعد عليهم في القول، أو إسراف في الفعل، أو تقصير في واجب، عليهم أن يهبوا كل ذلك لهم مكافأة لهم، ومجازاة لتربيتهم وعنايتهم ونعمتهم التي لا يؤدي الولد البار مهما عمل من خدمة بعض ما يجب عليه من البر والإحسان لأبيه.
ولنستمع إلى القطعة الأخيرة من دعاء الإمام زين العابدين (ع): اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَاخْصُصْ أَبَوَيَّ بِأَفْضَلِ ما خَصَصْتَ بِهِ آبَاءَ عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَأُمَّهَاتِهِمْ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ لَا تُنْسِنِي ذِكْرَهُما فِي أَدْبَارِ صَلَواتِي، وَفِي إِلَيَّ مِنْ آنَاءِ لَيْلي، وَفِي كُلِّ ساعَةٍ مِنْ ساعَاتِ نَهاري.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاغْفِرْ لِي بِدُعَائِي لَهُمَا، وَاغْفِرْ لَهُمَا بيرهما بي مَغْفِرَةً حَتْماً، وَارْضَ عَنْهُما بِشَفَاعَتِي لَهُما رِضَى عَزْماً، وَبَلِّغْهُما بِالْكَرَامَةِ مَواطِنَ السَّلَامَةِ.
اللَّهُمَّ وَإِنْ سَبَقَتْ مَغْفِرَتُكَ لَهُما فَشَفِّعْهُما فِيَّ، وَإِنْ سَبَقَتْ مَغْفِرَتُكَ لي فَشَفَّعْني فيهما، حَتَّى نَجْتَمِعَ بِرَأْفَتِكَ فِي دَارِ كَرَامَتِكَ، وَمَحَلَّ مَغْفِرَتِكَ وَرَحْمَتِكَ، إِنَّكَ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَالْمَنَّ الْقَدِيمِ، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ[12].
إن الإنسانية إنما تسمو وتتميز بهذه الأخلاق العلوية الهادفة إلى خلق مجتمع متكامل واحد تسوده المحبة والألفة والاحترام المتبادل، خصوصاً في عالم الأسرة التي ينطلق منها تهذيب الفرد وبناء شخصيته.
لقد دعا الإمام زين العابدين (ع) أبويه في هذه الفقرات الأخيرة طالباً من الله تعالى أن يتفضل عليهما بالمغفرة والرضوان، وأن يغفر له ببركة دعائه لهما، وأن يغفر لهما ببرهما له، فأي مودة ورحمة للأبوين مثل هذه المودة والرحمة؟
سيرة الإمام زين العابدين مع أبنائه
أما سلوك الإمام زين العابدين (ع) مع أبنائه، فقد تميز بالتربية الإسلامية الرفيعة لهم، فغرس في نفوسهم نزعاته الخيرة، واتجاهاته الإصلاحية العظيمة، وقد صاروا بحكم تربيته لهم من ألمع رجال الفكر والعلم والنضال في الإسلام.
فكان ولده الإمام محمد الباقر (ع) من أشهر أئمة المسلمين، ومن أكثرهم عطاءاً للعلم، وهو صاحب المدرسة الفقهية الكبرى التي تخرج منها كبار الفقهاء والعلماء أمثال أبان بن تغلب وزرارة بن أعين وغيرهما، ممن أضاءوا الحياة الفكرية في الإسلام.
وأما ولده عبد الله الباهر، فقد كان من أبرز علماء المسلمين في فضله، وسمو منزلته العلمية، وقد روى عن أبيه علوماً شتى، وكتب الناس عنه ذلك.
أما ولده زيد، فقد كان من أجل علماء المسلمين، وقد تخصص في علوم كثيرة كعلم الفقه والحديث والتفسير وعلم الكلام وغيرها، وهو الذي تبنى حقوق المظلومين والمضطهدين، وقاد سيرتهم النضالية في ثورته الخالدة التي نشرت الوعي السياسي في المجتمع الإسلامي، وساهمت مساهمة إيجابية وفعالة في الإطاحة بالحكم الأموي.
وصايا الإمام زين العابدين لأبنائه
وزود الإمام زين العابدين (ع) أبناءه ببعض الوصايا التربوية التي هي خلاصة تجاربه في هذه الحياة لتكون منهجاً يسيرون عليه، وفيما يلي بعض وصاياه:
الوصية الأولى
أوصى (ع) بعض أبنائه بهذه الوصية القيمة التي ألقت الأضواء على الأصدقاء والأصحاب، وألزمت الاجتناب عمن يتصف منهم بالنزعات الشريرة خوفاً من سريان العدوى والتلوث إلى من يصادقهم، وهذا نص وصيته:
يا بُنَيَّ، انْظُرْ خَمْسَةٌ فَلَا تُصَاحِبْهُمْ، وَلَا تُخَالِطُهُمْ، وَلَا تُرَافِقُهُمْ فِي طَرِيقِ.
فقال: يَا أَبَةِ، مَنْ هُمْ؟
قال: إِيَّاكَ وَمُصاحَبَةَ الْكَذَّابِ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّرابِ يُفَرِّبُ لَكَ الْبَعِيدَ، وَيُبَعدُ لَكَ القريب.
وَإِيَّاكَ وَمُصاحَبَةَ الْفَاسِقِ، فَإِنَّهُ بِابِعُكَ بِأَكْلَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذلِكَ.
وَإِيَّاكَ وَمُصاحَبَةَ الْبَخِيلِ، فَإِنَّهُ يَخْذُلُكَ في مَالِهِ وَأَنْتَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ.
وَإِيَّاكَ وَمُصاحَبَةَ الْأَحْمَقِ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ فَيَضُرَّكَ.
وَإِيَّاكَ وَمُصاحَبَةَ الْقَاطِع لِرَحِمِهِ، فَإِنِّي وَجَدْتُهُ مَلْعُوناً في كِتَابِ اللهِ تَعَالَى فِي ثَلَاثِ مواضع[13].
إن مزاملة هذه الأصناف تجرّ الويل والخسران، وتعود بالأضرار البالغة على من يصادقهم، وما أكثر هذه الأصناف في المجتمع قديماً وحديثاً، وما أندر الأزكياء والأصفياء الذين ينتفع بمصاحبتهم.
الوصية الثانية
ومن وصاياه لبعض أولاده: يا بُنَيَّ، إِنَّ اللهَ لَمْ يَرْضَكَ لِي فَأَوْصَاكَ بِي، وَرَضِيَنِي لَكَ فَحَذَرَنِي مِنْكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ خَيْرَ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ مَنْ لَمْ تَدْعُهُ الْمَوَدَّةُ إِلَى التَّفْرِيطِ فِيهِ، وَخَيْرَ الْأَبْنَاءِ لِلْآبَاءِ مَنْ لَمْ يَدْعُهُ التَّقْصِيرُ إِلَى الْعُقُوقِ لَهُ…[14].
وحفلت هذه الوصية بالنقاط التالية:
1ـ إن الأبناء لا يكنون في أعماق نفوسهم لآبائهم من المودة والعطف مثل ما يكنه الآباء لهم، ولذلك أكد تعالى في غير آية من كتابه المجيد بلزوم رعايتهم وطاعتهم.
2ـ إن الله تعالى حذر الآباء من أبنائهم من مصادر الفتنة والشقاء لهم.
3ـ إن التربية الناجحة للأبناء هي أن لا يفرط الآباء بالمودة والحنان لهم، فإن ذلك مما يؤدي إلى ضعف شخصية الطفل، وعدم استطاعته الصمود أمام الأحداث، وقد أكد هذه الظاهرة علماء التربية والنفس.
4- إن أفضل الأبناء هم الذين يقومون بخدمة آبائهم والإحسان إليهم، وبذلك يخرجون من حدود التقصير والعقوق لهم.
الوصية الثالثة
ومن وصاياه الرائعة: جالسوا أَهْلَ الدِّينِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَإِن لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَالْوَحْدَةُ آنَسُ وَأَسْلَمُ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا مُجالَسَةَ النَّاسِ فَجَالِسُوا أَهْلَ الْمُرُوَّاتِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَؤْمِنُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ[15].
هذه بعض وصاياه التربوية لأبنائه، وقد وضع فيها المناهج السليمة لسلوكهم ومسيرتهم في هذه الحياة.
دعاء الإمام زين العابدين لأبنائه
أما دعاء الإمام (ع) لأبنائه فهو في منتهى الروعة والجلال، فقد حكى سلوكه النير معهم، وما يتمناه لهم من سمو الآداب، ومكارم الأخلاق، ولنستمع ونصغي إليه، فإنه من أسمى الثروات في التربية الإسلامية:
اللَّهُمَّ وَمُنَّ عَلَيَّ بِبَقَاءِ وُلْدِي، وَبِإِصْلاحِهِمْ لِي، وَبِإِمْتَاعِي بِهِمْ، إِلهي امْدُدْ لِي فِي أَعْمَارِهِمْ، وَزِدْ لي في أَجَالِهِمْ، وَرَبِّ لِي صَغِيرَهُمْ، وَقَوَّ لِي ضَعِيفَهُمْ، وَأَصحَ لِي أَبْدَانَهُمْ وَأَدْيَانَهُمْ، وَأَخْلاقَهُمْ، وَعَافِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي جَوارِحِهِمْ، وَفِي كُلِّ ما عُنِيتُ بِهِ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَأَدْرِرْ لِي وَعَلَى يَدَيَّ أَرْزاقَهُمْ، وَاجْعَلْهُمْ أَبْرَاراً أَتْقِياءَ، بَصَرَاءَ سامِعِينَ مُطيعينَ لَكَ، وَلأَوْلِيَائِكَ مُحِبّينَ مُناصِحِينَ، وَلِجَميع أَعْدَائِكَ مُعانِدِينَ وَمُبْغِضِينَ، آمین.
ومثّلت هذه الفقرات مدى روحانية الإمام زين العابدين (ع) في سلوكه لتربية أبنائه، فقد قامت تربيته (ع) لهم على الإصلاح الشامل، والتهذيب المطلق، فقد دعا لهم بما يلي:
1- أن يمن الله عليهم بالبقاء والإصلاح ليكونوا قرة عين له.
٢- أن ينعم الله عليهم بالصحة الشاملة لأبدانهم وأديانهم وأخلاقهم.
3- أن يعافي الله نفوسهم وأرواحهم، وذلك بتطهيرها من الرذائل والآثام.
٤- أن يمنحهم تعالى العافية في جوارحهم لئلا يصابوا بعاهة في أجسامهم مما
تشل فعالياتهم.
5ـ أن يوسع الله عليه وعليهم في أرزاقهم، ولا يذيقهم مرارة الفقر، فإنه من أفجع الكوارث وأفتكها.
٦- أن يهديهم تعالى إلى مرضاته فيجعلهم ممن يسارعون إلى الخيرات وبأمره يعملون.
7- أن يحبّب لهم تعالى أولياءه، ويبغض لهم أعداءه.
وهذا العطف مما يوجب تماسك الأسرة وانسجامها، وإذا تربى الولد على هذا الانموذج من الخلق الرفيع كان قرة عين لأبيه.
ولنستمع إلى قطعة أخرى من هذا الدعاء الشريف:
اللَّهُمَّ اشْدُدْ بِهِمْ عَضُدِي، وَأَقِمْ بِهِمْ أَوَدِي، وَكَذَّرْ بِهِمْ عَدَدِي، وَزَيَّنْ بِهِمْ مَحْضَرِي، وَأَحْيِ بِهِمْ ذِكْرِي، وَاكْفِنِي بِهِمْ فِي غَيْبَتِي، وَأَعِنِّي بِهِمْ على حاجتي، وَاجْعَلْهُمْ لي مُحِبّينَ، وَعَلَيَّ حَدِينَ مُقْبِلِينَ، مُسْتَقِيمِينَ لي، مُطيعينَ غَيْرَ عاصِينَ وَلَا عَالِّينَ، وَلَا مُخالِفِينَ وَلَا خَاطِئِينَ.
وَأَعِنِّي عَلَى تَرْبِيَتِهِمْ وَتَأْدِيبِهِمْ وَبِرْهِمْ، وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ مَعَهُمْ أولاداً ذُكُوراً، وَاجْعَلْ ذَلِكَ خَيْراً لي، وَاجَعَلْهُمْ لِي عَوْناً عَلَى مَا سَأَلْتُكَ.
وَأَعِذْنِي وَذُرِّيَّتِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّحِيمِ، فَإِنَّكَ خَلَقْتَنَا وَأَمَرْتَنَا وَنَهَيْتَنَا، وَرَغَبْتَنا فِي ثَوابِ ما أَمَرْتَنَا، وَرَهَّبْتَنا عِقَابَهُ، وَجَعَلْتَ لَنَا عَدُوّاً يَكِيدُنا، سَلَّطْتَهُ مِنَا عَلَى مَا لَمْ تُسَلِّطْنَا عَلَيْهِ مِنْهُ، أَسْكَنْتَهُ صُدُورَنَا، وَأَجْرَيْتَهُ مَجارِيَ دِمَائِنا، لَا يَغْفُلُ إِنْ غَفَلْنَا، وَلَا يَنْسَى إِنْ نَسِينَا، يُؤْمِنُنَا عِقَابَكَ، وَيُخَوِّفُنَا بِغَيْرِكَ، إِنْ هَمَمْنَا بِفَاحِشَةٍ شَجَّعَنَا عَلَيْهَا، وَإِنْ هَمَمْنَا بِعَمَلٍ صالِحٍ ثَبَّطَنَا عَنْهُ، يَتَعَرَّضُ لَنَا بِالشَّهَوَاتِ، وَيَنْصِبُ لَنَا بِالشُّبُهَاتِ، إِنْ وَعَدَنا كَذَبَنَا، وَإِنْ مَنَانَا أَخْلَفَنا، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنَّا كَيْدَهُ يُضِلُّنَا، وَإِلَّا تَقِنا خَبَالَهُ يَسْتَزِلَّنا.
اللَّهُمَّ فَاقْهَرْ سُلْطَانَهُ عَنَّا بِسُلْطَانِكَ حَتَّى تَحْبِسَهُ عَنَّا بِكَثْرَةِ الدُّعَاءِ لَكَ، فَنُصْبِحَ مِنْ كَيْدِهِ فِي الْمَعْصُومِينَ بِكَ.
واحتوت هذه الفقرات الرائعة على أمرين، وهما:
أولاً: إن الإمام (ع) سأل الله تعالى أن يحقق له ما يرجوه ويأمله في أولاده الأزكياء، وكان مما يرجوه منهم ما يلي:
1- أن يشد بهم عضده، ويقويه بهم، فإن الولد الصالح قوة للأب.
2- أن يقيم بهم ما اعوج وأشكل عليه من أموره.
3- أن يكثر بهم عدده، فيكونوا أسرة ذات عدد كبير ملحوظين أمام المجتمع.
4ـ أن يزين بهم محضره ومجلسه، وذلك بسمو آدابهم ومعالي أخلاقهم.
5- أن يكفيه بهم في حال غيابه، وذلك بقيامهم في مهماته.
6- أن يعينوه على حوائجه، ولا يتركوه وحده.
7- أن يمنحهم تعالى حب أبيهم والعطف عليه ليطيعوا أوامره، ويجتنبوا معاصيه، وما لا يرضيه.
إن الأبناء إذا كانوا بهذه الصفة من الصلاح والإخلاص لآبائهم، فإن جل متاعب الدنيا تزول وينعمون بهم في حال شيخوختهم التي هي مركز الضعف.
ثانياً: إن الإمام زين العابدين (ع) أعاد نفسه وذريته بالله تعالى من شر الشيطان الرجيم الذي هو العدو الأول للإنسان الذي يلقيه في متاهات سحيقة من المعاصي والآثام، وقد عرض (ع) إلى سلطة الشيطان على الإنسان، وهيمنته عليه، فقد سكن في أعماق النفوس، ونفذ إلى جميع خلايانا، وذكر أموراً أخرى، والتي منها ما يلي:
١- إن الشيطان يغري الإنسان باقتراف المعاصي، ويسهل عليه عقاب الله الذي أعده للعصاة من عباده، كما يخوّف الإنسان بغير الله تعالى فيجعله يخاف ويخشى منه أكثر مما يخشى ويخاف من الله.
2- إن الإنسان إذا هم بمعصية شجعه الشيطان عليها، ودفعه لها حتى يوقعه بها.
3- إن الإنسان إذا هم بعمل الخير، وبما يقربه إلى الله زلفى ثبطه عنه الشيطان وجعله يتكاسل عنه حتى يصرفه عنه.
4- إن الشيطان يغري الإنسان بالشهوات، ويزينها له حتى ينقاد لها.
5- إن الشيطان يلقي في قلب الإنسان الأوهام والشبهات التي توجب بعد الإنسان عن ربه.
وعرض الإمام (ع) بعد ذلك إلى أن جميع أماني الشيطان للإنسان كذب وخداع، ولا حقيقة ولا واقع لها، ثم سأل الإمام (ع) أن يصرف عن المؤمنين كيد الشيطان ومكره حتى لا يقعوا في حباله.
الاستنتاج
أن الإمام زين العابدين (ع) اتبع سلوك آبائه الطاهرين، حاملاً في قلبه روح جده الإمام أمير المؤمنين (ع)، حيث سار على نهجه في جميع جوانب حياته، وكان من أرحم الناس بأهل بيته، يعاملهم كأحدهم، ويُظهر برّا عظيما تجاه والده ومربيته، حيث لم يدخر جهدا في خدمتهما، كما تميز سلوكه مع أبنائه بتقديم التربية الإسلامية الرفيعة، وزودهم بوصايا تربوية مستمدة من تجاربه في الحياة، لتكون منهجا يُرشدهم في مسيرتهم، هكذا، أصبح الإمام (ع) نموذجا يُحتذى به في الرحمة والبر والتربية.
الهوامش
[1] قرموا: أي اشتد شوقهم إلى اللحم.
[2] المجلسي، بحار الأنوار، ج٤٦، ص٦٦.
[3] المجلسي، بحار الأنوار، ج٤٦، ص٦7.
[4] ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب، ج1، ص105.
[5] الأحزاب، ۲۱.
[6] ابن كثير، البداية والنهاية، ج9، ص108.
[7] الصدوق، عيون أخبار الرضا (ع)، ج2، ص281.
11] إشارة إلى قوله تعالى: وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، الجاثية، 22.
[12] الإمام زين العابدين، الصحيفة السجادية، الدعاء الرابع والعشرون.
[13] الكليني، الكافي، ج٢، ص٣٧٦.
[14] ابن عبد ربّه، العقد الفريد، ج3، ص89.
[15] المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص96، ح٢٧.
مصادر البحث
1ـ القرآن الكريم.
2ـ ابن العماد الحنبلي، عبد الحي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، بيروت، دار إحياء التراث العربي، بلا تاريخ.
3ـ ابن عبد ربّه، أحمد، العقد الفريد، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1404 ه.
4ـ ابن كثير، إسماعيل، البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأُولى، 1408 ه.
5ـ الإمام زين العابدين، علي، الصحيفة السجادية، قم، نشر الهادي، الطبعة الأُولى، 1418 ه.
6ـ الصدوق، محمّد، عيون أخبار الرضا (ع)، تصحيح وتعليق حسين الأعلمي، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، طبعة 1404 ه.
7ـ الكليني، محمّد، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.
8ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه.
مصدر المقالة (مع تصرف)
القرشي، باقر، موسوعة سيرة أهل البيت (ع)، تحقيق مهدي باقر القرشي، النجف، دار المعروف، الطبعة الثانية، 1433 ه، ج15، ص47 ـ ص62.