النبي محمد (ص) يعلن ولاية علي (ع) يوم الغدير، وذلك لما أيقن (ص) بقرب انتقاله إلى جنة المأوى رأى من الواجب عليه أن يحج البيت الحرام، ويضع لأمته الخطوط السليمة لنجاتها، وصيانتها من الأزمات والفتن، وسيادتها على بقية أمم العالم وشعوب الأرض.

ولهذه الأسباب حج البيت الحرام ليعلن في صعيده ما يرومه، وقد أعلن بين الوفود أن عامهم هذا هو آخر عهدهم به قائلاً: إِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَداً.

وفزع الحجاج وذهلوا، وأفزعهم كلامه، وراح يقول بعضهم لبعض: النبي محمد (ص) ينعى نفسه.

ومضى النبي محمد (ص) في تنفيذ مناهجه السليمة التي تضمن سعادة أمته في جميع مراحل تأريخها قائلاً: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي.

ولما أنهى النبي محمد (ص) مراسيم الحج، وقف عند بئر زمزم، وأمر ربيعة بن خلف فوقف تحت راحلته ليبلغ الحجاج ما يقوله، وقال لربيعة: قُلْ ما أَقُولُهُ، ثم قال: أَتَدْرُونَ أَيَّ بَلَدٍ هذا؟

أَتَدْرُونَ أَيَّ شَهْرٍ هَذا؟

أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هَذا؟

فهتفوا جميعاً: نعم، هذا البلد الحرام، وهذا الشهر الحرام، واليوم الحرام.

وأخذ النبي محمد (ص) يتلو عليهم القيم الكريمة والمثل العليا التي جاء بها قائلاً: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوالَكُم كَحُرْمَةِ بَلَدِكُمْ هَذَا، وَ كَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذا، وَ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذا… أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟

فأجابوا جميعاً: نعم.

ثم أخذ النبي محمد (ص) يعرض على حجاج بيت الله الحرام الأحكام التي يلزمون بتطبيقها على واقع حياتهم قائلاً: اتَّقُوا اللَّهَ، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ، وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَمَانَةً فَلْيُؤَدِّها..

النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ سَواءٌ طَفَّ الصَّاعِ لَآدَمَ وَحَوَاءَ، لَا فَضْلَ لِعَرَبِيَّ عَلَى أَعْجَمِيٌّ، وَلَا لِأَعْجَمِيٌّ عَلَى عَرَبِيَّ إِلَّا بِتَقْوى اللَّهِ… أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟

وانبروا قائلين: نعم.

وأضاف النبي محمد (ص) قائلاً: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، لَا تَأْتُونِي بِأَنْسَابِكُمْ وَائْتُونِي بِأَعْمَالِكُمْ، فَأَقُولُ لِلنَّاسِ: هَكَذَا، وَلَكُم هكَذَا، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟

وهذه المثل الكريمة هي التي تحقق كرامة الإنسان، وتضمن له سعادته، ثم واصل النبي محمد (ص) حديثه قائلاً: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، كُلُّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمِي، وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمَ رَبِيعَةَ بنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟

نعم.

اللَّهُمَّ اشْهَدْ، وَكُلُّ رباً كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمِي، وَأَوَّلُ رِبَا أَضَعُهُ رِبَا الْعَبَّاسِ بنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟

نعم.

اللَّهُمَّ اشْهَدْ.. أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ.

أَوْصِيْكُمْ بِالنِّسَاءِ خَيْراً فَإِنَّمَا هُنَّ عَوارِ عِنْدَكُمْ، لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكِتَابِ اللهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقٌّ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقٌّ: كِسْوَتُهُنَّ وَرِزْقُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوْطِئْنَ فِرَاشَكُمْ أَحَداً، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ إِلَّا بِعِلْمِكُمْ وَإِذْنِكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟

نعم.

اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَأَوْصِيْكُم بِمَنْ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَأَطْعِمُوهُم مِمَّا تَأْكُلُونَ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟

نعم.

اللَّهُمَّ اشْهَدْ.. إِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَغُشُهُ، وَلَا يَخُونُهُ، وَلَا يَغْتَابُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ دَمُهُ، وَلَا شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ إِلَّا بِطِيْبٍ مِنْهُ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟

نعم.

ويستمر رسول الله (ص) في تأسيس المناهج التربوية والأخلاقية والاجتماعية، وما تسعد به الأمة في جميع شؤونها، ثم ختم خطابه الرائع بقوله: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً مُضَلَّلِينَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، إِنِّي خَلَّفْتُ فِيْكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتابَ اللهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟

اللَّهُمَّ اشْهَدْ.. إِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ فَلْيُبَلِّغُ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ…[1].

وانتهى هذا الخطاب الحافل بجميع القيم الإنسانية التي تسمو بها الأمة في مجالاتها الاجتماعية والسياسية، وتحقق لها السيادة على شعوب العالم وأمم الأرض، وقد ختم النبي (ص) بإلزام أمته بالتمسك بكتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والتمسك بالعترة الطاهرة لتكون لها القيادة العامة لأمته.

يوم الغدیر

وبعد ما أدى النبي محمد (ص) الحج إلى بيت الله الحرام، ووضع الخطط السليمة لصيانة الأمة من التردي في مجاهل هذه الحياة قفل راجعاً إلى المدينة، ولما اجتاز موكبه غدير خم هبط عليه جبرئيل يوم الغدير برسالة من السماء بالغة الخطورة تتعلق بمصير الأمة ومستقبلها بعد رحيله إلى جنة المأوى، فقد أمره الله تعالى أن يحط رحله في ذلك المكان لينصب الإمام عي (ع) إماماً للأمة وخليفة عليها من بعده، ويقلده المرجعية العامة لها، ولم يرخصه في التأخير لحظة واحدة، وكان أمر السماء بهذه الآية: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ[2].

ونص الرواة على أن الآية نزلت على الرسول (ص) في غدير خم وطابعها يحمل التهديد الصارم إلى النبي محمد (ص) بأنه إن لم يفعل ما أمر به فما بلغ رسالة ربه، وضاعت جهوده وتبددت أتعابه.

وتلقى النبي محمد (ص) أمر الله تعالى بأهمية بالغة، فانبرى بعزم ثابت وإرادة صلبة غير حافل بالمنافقين والحاسدين للإمام أمير المؤمنين (ع)، فوضع أعباء المسير، وحط رحله في رمضاء الهجير، وأمر قوافل الحج أن تصنع مثل ذلك، وكان الوقت قاسياً في حرارته حتى كان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدمه يتقي به من الحر.

واجتمع الحجاج فصلى بهم النبي محمد (ص) يوم الغدير وبعد فراغه من الصلاة أمر بوضع حدائج لتكون منبراً له، فصنعت له فاعتلى عليها، وكان عدد الحاضرين – فيما يقول الرواة – مائة ألف أو يزيدون، فخطب فيهم وأعلن عما عاناه (ص) من الجهود الشاقة في سبيل هداية الناس وإنقاذهم من خرافات الجاهلية وعبادة الأوثان والأصنام، ثم ذكر كوكبة من أحكام الإسلام وتعاليمه، والتفت إلى الجماهير قائلاً: انْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِي الثَّقَلَينِ؟

فناداه مناد من القوم: ما الثقلان يا رسول الله؟

وبيّن بوضوح وصراحة الثقلين قائلاً:

الثَّقَلُ الْأَكْبَرُ: كِتابُ اللهِ طَرَفٌ بِيَدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَطَرَفٌ بِأَيْدِيكُمْ فَتَمَسَّكُوا بِهِ وَلَا تَضِلُّوا، وَالْآخَرُ الْأَصْغَرُ: عِتْرَتِي، وَإِنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ نَبَّأَنِي أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِهَا حَتَّىٰ يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَسَأَلْتُ ذَلِكَ رَبِّي لَهُما، فَلَا تَقَدَّمُوْهُمَا فَتَهْلِكُوا، وَلَا تَقْصُرُوا عَنْهُمَا فَتَهْلِكُوا.

الضمان الأكيد لسلامة الأمة في مسيرتها التمسك بكتاب الله العزيز وبالعترة الطاهرة.

ثم أخذ النبي محمد (ص) بيد وصيه وسيد عترته وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (ع)، فرفعه حتى بان بياض إبطيهما، ورفع صوته عالياً قائلاً: أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ أَوْلَى النَّاسِ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟

فأجابوا مجمعين: الله ورسوله أعلم.

فقال (ص):  إِنَّ اللَّهَ مَوْلَايَ، وَأَنَا مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَا أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنفُسِهِم، فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ.

قال ذلك ثلاث مرات، ثم قال: اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعادِ مَنْ عاداهُ، وَأَحِبَّ مَنْ أَحَبَّهُ، وَأَبْغِضْ مَنْ أَبْغَضَهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وَأَدِرِ الْحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ، أَلَا فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ.

وانتهى خطابه الشريف يوم الغدير الذي أعلن فيه تقليده لمنصب الخلافة والإمامة للإمام أمير المؤمنين (ع).

البيعة العامة للإمام علي

وأقبل المسلمون يوم الغدير يبايعون الإمام علي (ع) بولاية العهد ويهنئونه بهذا المنصب الخطير، وأمر النبي محمد (ص) أمهات المؤمنين أن يبايعن الإمام، ففعلن ذلك، وأقبل ابن الخطاب فهنأ الإمام وصافحه، وقال له: هنيئاً يابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة[3].

وانبرى حسّان ابن ثابت فنظم حادثة يوم الغدير الخالدة بقوله:

يناديهم يوم الغدير نبيهم ** بِخُمَّ وأَسْمِعْ بِالرَّسُولِ مُنادِيا
فقالَ فَمَنْ مَولاكم ونبيكُمْ ** فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهُكَ مَولانا وأَنتَ نَبيُّنا ** ولم تَلْقَ منا في الولاية عاصيا
فقالَ لَهُ قُمْ يَا عَلِيُّ فَإِنَّنِي ** رَضِيتُكَ مِنْ بعدي إماماً وهاديا
فَمَن كنت مولاه فهذا وليه ** فكونوا له أتباع صدقٍ مَواليا
هُناكَ دَعَا اللَّهُمَّ والى وليه **وكُنْ لِلَّذِي عادى عَلِيّاً مُعادِيا[4]

إن تقليد النبي محمد (ص) للإمام أمير المؤمنين (ع) الخلافة في غدير خم قد ألهمت عواطف الشعراء، فقد انبرى الشاعر الملهم السيد الحميري إلى نظمها في كثير من شعره، كان منها هذه الأبيات:

وقامَ مُحَمَّدٌ بِغَدِيرِ خُم ** فنادى مُعلناً صوتاً نَدِيًا
لمَنْ وَافَاهُ مِنْ عُربٍ وَعُجْمِ ** وحَفُوا حَولَ دوحَتِهِ جِثِيًا
ألا من كنت مولاه فهذا ** لهُ مَوْلى وكانَ بِهِ حَفِيًا[5]

وقال شاعر الإسلام الأكبر الكميت الأسدي:

ويوم الدوحِ دوح غدير خُمَّ  ** أَبانَ لَهُ الولايةَ لَوْ أُطيعا
ولكن الرجال تبايعوها ** فَلَمْ أَرَ مِثْلَهَا حَقًّاً أُضِيعا

وسجل العلامة الأميني (قده) كوكبة من الشعراء الذين نظموا حادثة يوم الغدير من عصر النبوة حتى يوم الناس هذا.

نزول آية إكمال الدين

في يوم الغدير الخالد في دنيا الإسلام نزلت الآية الكريمة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[6].

لقد كمل الدين، وتمت نعمة الله تعالى الكبرى على المسلمين بولاية إمام المتقين وسيد الموحدين على جميع المسلمين.

لقد جمع النبي محمد (ص) أمته على صعيد العلم والتقوى والإيمان بأخذه البيعة للإمام أمير المؤمنين له، فليس في صحابته ولا في أسرته من يضارع بعض مثل الإمام (ع) التي استوعبت بفخر جميع لغات الأرض.

إن البيعة للإمام أمير المؤمنين (ع) جزء من رسالة الإسلام، وركن من أركان الدين، فمن أنكرها فقد أنكر الإسلام، كما قال العلامة العلائلي.

البيعة للإمام ضرورة إسلامية

الخلافة في الإسلام من العناصر الأساسية في تكوين المجتمع الإسلامي، والقوة الفاعلة في صيانة المسلمين من الاعتداء والغزو الخارجي، فهي التي تصون كرامتهم وحريتهم واستقلالهم، وتدفع عنهم غائلة القوى الكافرة التي تكيد لهم في وضح النهار وفي غلس الليل.

النبي (ص) والخلافة

اهتم النبي محمد (ص) اهتماماً بالغاً بالخلافة والإمامة من بعده؛ لأنها من أهم المراكز الحساسة في إقامة دولته، فهي امتداد لحكمه واستدامة لشريعته، وقد قرنها برسالته في بداية دعوته للإسلام حينما دعا أسرته إلى تصديقه، والإيمان بقيمه ليتخذ منهم شخصاً يؤازره على أداء رسالته فيجعله وزيراً وخليفة من بعده، فلم يستجب له أحد سوى الإمام أمير المؤمنين، فأخذ برقبته، وقال: هذا أَخِي، ووزيري، وَوَصِيِّي، وَخَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي فِيْكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا[7].

ومن شدة اهتمامه بالخلافة قال: مَنْ ماتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِينَةٌ جاهلية.

إن النبي محمد (ص) عالج جميع قضايا المسلمين، ووضع لها الحلول الحاسمة، ومن أهمها إقامة خليفة من بعده يقيم فيهم العدالة الإسلامية، ويحكم بين الناس بشريعة الله تعالى، وأن من أوهى الآراء وأكثرها بعداً عن الصواب القول بأن النبي محمد (ص) أهمل هذه الجهة التي بها سعادة أمته وسلامتها من الانحراف، ومن المؤكد إن إهمالها وعدم التعرض لها إنما هو تدمير للبناء الاجتماعي الذي أقامه الرسول (ص)، وإلقاء للأمة في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة.

إن الأزمات الحادة والمنازعات العنيفة التي واجهها المسلمون في معظم عصورهم كانت ناجمة – من دون شك من الاهمال المتعمد للنصوص النبوية التي عينت الخلافة وحصرتها في أهل بيت النبوة ومراكز الوحي، دعاة الله تعالى في الأرض.

يقول السيد محمد الكيلاني: لقد تنازع القوم على منصب الخلافة تنازعاً قل أن نجد له مثيلاً في الأمم الأخرى، وارتكبوا في سبيل ذلك ما نتعفف نحن عن ارتكابه، فترتب على ذلك أن أزهقت الأرواح، ودمرت مدن، وهدمت قرى، وأحرقت دور، وترملت نساء، وتيتمت أطفال، وهلك من المسلمين خلق كثير[8].

وعلى أي حال، فالرسول الأعظم (ص) الذي بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، والذي يعز عليه عنت أمته كيف يتركها فوضى من دون أن يعين لها القائد لمسيرتها.

النبي (ص) رشح علياً للخلافة

والشيء المؤكد – حسب الدراسات العلمية، والتأمل الجاد في السيرة النبوية ومصادر التاريخ – أن النبي محمد (ص) رشح الإمام أمير المؤمنين (ع) للخلافة، وأقامه إماماً لأمته، ويدعم ذلك النصوص المتواترة من النبي محمد (ص) في تعظيم شأنه والإشادة به، فهو باب مدينة علمه، وأنه مع الحق والحق معه، وأنه منه بمنزلة هارون من موسى، وغير ذلك من مئات الأحاديث التي أثرت عنه في فضل وصيه وأبي سبطيه.

لماذا رشح النبي علياً

ويتساءل الكثيرون: لماذا رشح النبي محمد (ص) الإمام علي بن أبي طالب (ع) للخلافة، وقدمه على أهل بيته وأصحابه؟

والجواب على ذلك أنه (ص) نظر بعمق وشمول في أسرته وأصحابه، فلم ير أحداً أفضل من علي (ع) ولا أحق بالخلافة منه، لا لأنه ألصق الناس به، بل لأنه كان من أكثر المسلمين وعياً لرسالته، وأدرى بأحكام شريعته، ومعاذ الله أن يندفع الرسول (ص) وراء العاطفة التي يؤول أمرها إلى التراب.

لقد انتخب النبي محمد (ص) الإمام أمير المؤمنين (ع) خليفة من بعده؛ وذلك لما يتمتع به من الصفات الرفيعة، والقابليات الفذة التي لم يتمتع بها أحد سواه، ولعل من أهمها ما يلي:

الصفة الأولى

أن الإمام أمير المؤمنين (ع) كان يملك طاقات عملاقة من العلم لم يملكها أحد سواه، خصوصاً فيما يتعلق بأحكام الشريعة وشؤون الدين، ومسائل القضاء، فقد كان المرجع الأعلى فيه، وقد اشتهرت كلمة عمر فيه: لولا علي لهلك عمر، ولم يشابهه أحد من الصحابة بهذه الظاهرة، وقد ألفت بعض الكتب في روعة قضائه.

كما كان (ع) من أرقى القادة في العالم الإسلامي في الشؤون السياسية والإدارية، وعهده لمالك الأشتر من أوثق الأدلة الحاسمة على ذلك، فقد حفل هذا العهد الشريف بالشؤون السياسية الإسلامية بما لم يحفل به أي دستور سياسي في الإسلام.

وإن المتتبع في الوثائق السياسية التي دونت في نهج البلاغة يجد صوراً رائعة للسياسة الرشيدة التي لا التواء فيها، والتي تبنت العدل الخالص بجميع صوره.

وكما كان الإمام أمير المؤمنين (ع) أعلم المسلمين بشؤون السياسة العادلة التي لا تعرف الخداع والنفاق والتضليل، فقد كان من أعلمهم بسائر العلوم الأخرى، كعلم الكلام، والفلسفة، وعلم الحساب، والهيئة، وغيرها.

يقول العقاد: إن الإمام علي (ع) فتق أبواباً كثيرة من العلوم تربو على ثلاثين علماً، ومع هذه الثروات العلمية الهائلة التي يتمتع بها الإمام (ع) كيف لا ينتخبه الرسول (ص) لمنصب الخلافة التي تدور عليها استقلال الأمة وأمنها وحريتها ورخائها[9].

إن الطاقات العلمية اللا محدودة التي يملكها الإمام الله تقتضي بحكم المنطق الإسلامي الذي يؤثر الصالح العام على كل شيء أن يكون هو المرشح لقيادة الأمة دون غيره، فإن الله تعالى يقول: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [10].

وليس شيء أدعى إلى السخرية والاستهزاء من القول بجواز تقديم المفضول على الفاضل، فإنّ هذا المنطق اللاعلمي يتجافى مع القيم الإسلامية التي الزمت بتقديم العلماء على غيرهم وترشيحهم للمناصب الحساسة، وتقديم غيرهم عليهم تدمير للقيم الكريمة، وتجني على العلم.

الصفة الثانية

إن الإمام أمير المؤمنين (ع) كان من أشجع الناس وأقواهم جناناً، وقد استوعبت شجاعته النادرة جميع لغات الأرض، وهو القائل: لَوْ تَظَافَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْها، وقد قام الإسلام بسيفه، وبني على جهاده وجهوده، وهو صاحب المواقف المشهودة يوم بدر ويوم حنين ويوم الأحزاب، فقد حصد بسيفه رؤوس المشركين، وأباد أعلامهم وضروسهم، وأشاع في بيوت الجبابرة والطغاة الشكل والحزن… ولم تنفتح ثغرة على الإسلام من خصومه وأعدائه إلا تصدى لإسكاتها.

وقد قدمه النبي محمد (ص) على غيره، فأسند له قيادة جيشه، وما ولج حرباً إلا فتح الله تعالى على يده، وهو الذي أذل اليهود وقهرهم، وفتح حصون خيبرهم، وكسر شوكتهم.

إن الشجاعة من العناصر الأساسية التي يجب توفرها عند من يتولى زعامة الأمة، وإدارة شؤون البلاد، وأما إذا كان خائر القوى جباناً، فإن الأمة تتعرض للكوارث والأزمات.

ومع توفر الشجاعة بأسمى معانيها، وأجلى صورها في شخصية الإمام أمير المؤمنين الكيف لا يرشحه النبي محمد (ص) للخلافة والإمامة من بعده.

إن الإمام (ع) بحكم شجاعته النادرة التي تصحبها جميع الصفات الكريمة، والنزعات الشريفة، هو المتعين لقيادة الأمة حتى لو لم يكن هناك نص من النبي محمد (ص).

الصفة الثالثة

من أهم الصفات التي يجب توفرها عند من يتصدى للخلافة نكران الذات، وإيثار مصلحة الأمة على كل شيء، والتي منها الاحتياط التام في أموال المسلمين، وإنفاقها على تطوير حياتهم، وإنقاذهم من غائلة الفقر، وكانت هذه الظاهرة من أبرز القيم في حكومة الإمام (ع)، فلم يعرف المسلمون حاكماً زهد في الدنيا ورفض جميع مباهجها كالإمام أمير المؤمنين (ع) رائد العدالة الاجتماعية في دنيا الإسلام.

لقد أجمع المؤرخون والرواة على أن الإمام أمير المؤمنين (ع) في أيام حكومته قد تحرج كأشد ما يكون التحرج في أموال الدولة، فلم يدخر لنفسه ولا لأهل بيته أي شيء منها، وساس المسلمين سياسة رشيدة في العطاء، وساوى بين الجميع في الحقوق والواجبات وغيرها، كما لم تقنّن في أي مذهب مثل ما قننه الإمام في سياسته الرشيدة في المثل والقيم الكريمة، وما تبناه من العدل الخالص والحق المحض.

الصفة الرابعة

من الصفات التي يجب توفرها في الإمام الذي يتصدى لزعامة الأمة أن يكون تقياً ورعاً صالحاً لا يؤثر أي شيء على طاعة الله تعالى، وهذه الصفة قد تميز بها الإمام أمير المؤمنين (ع) وحده، فكانت من أبرز صفاته، فقد تحرج عن كل ما لا يقربه إلى الله تعالى زلفى، وهو القائل:

وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا، عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ جُلْبَ شَعِيرَةٍ أَسْلُبُهَا مِن فَمِ نَمْلَةٍ مَا فَعَلْتُ.

إن الإمام أمير المؤمنين (ع) هو داعية الله تعالى الأكبر في الأرض بعد أخيه وابن عمه النبي محمد (ص)، وقد حفل نهجه بالخطب الرائعة التي يدعو فيها إلى توحيد الله تعالى وطاعته.

وكان من مظاهر تقوى الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه امتنع من إجابة عبد الرحمن بن عوف حينما ألح عليه بعد مقتل عمر بن الخطاب أن يقلده الخلافة بشرط أن يلتزم بسياسة الشيخين ويسير على منهجهما فامتنع كأشد ما يكون الامتناع، وأصر على أن يسير في سياسته على وفق كتاب الله تعالى وسنة نبيه، واجتهاده الخاص، ولو كان من طلاب الملك والسلطان لأجابه إلى ذلك، ثم يسير على وفق سياسته، فإن اعترض عليه ابن عوف اعتقله وأودعه في السجون.

إن الإنسانية على ما جربت من تجارب، وبلغت من رقي وإبداع في عالم السياسة والحكم، فإنها لم تر حاكماً في جميع فترات التاريخ مثل الإمام أمير المؤمنين (ع) في فضله وعلمه ونزاهته وتجرده من جميع زخارف الحياة.

وعلى أي حال، فهذه لمحات موجزة عن شخصية الإمام (ع) فكيف لا يرشحه النبي محمد (ص) ويقيمه علماً لأمته يهديها للتي هي أقوم.

إن النبي محمد (ص) بصورة جازمة لا تقبل الشك قد أقام الإمام (ع) يوم الغدير خليفة ومرجعاً للأمة، وخصه بهذا المنصب لا لقاعدة الوراثة وغيرها التي يؤول أمرها إلى التراب، وإنما لتوفر الصفات الرفيعة في شخصيته، ولا نصيب من الصحة للقول بأن النبي محمد (ص) قد أهمل أمر الخلافة، ولم يعرض لها بقليل ولا بكثير، وترك الأمة تتردّى في متاهات سحيقة من الفوضى والجهل.

الاستنتاج

بعد أداء النبي محمد (ص) حجة الوداع، وعند مروره بغدير خم، نزل عليه يوم الغدير جبرئيل برسالة من الله تتعلق بمصير الأمة بعد وفاته، وأمره الله أن يقف في ذلك المكان ليعين الإمام علي (ع) إماماً وخليفةً للمسلمين، ولم يُسمح له بالتأخير، فقام (ص) يوم الغدير بتنصيب علي (ع) وبارك المسلمون له بمبايعته، في ذلك اليوم نزلت آية إكمال الدين وإتمام النعمة، مشيرةً إلى ولاية علي (ع) كخليفة، وأن النبي (ص) اختار علياً (ع) لما يمتاز به من صفات رفيعة وقدرات فريدة، مما يجعله الأنسب لقيادة الأمة.

الهوامش

[1] اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص90.
[2] المائدة، 67.
[3] ابن حنبل، مسند أحمد، ج٤، ص٢٨١.
[4] الأميني، الغدير، ج1، ص271.
[5] ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، ج2، ص235.
[6] المائدة، 3.
[7] الحديث مجمع على صحته.
[8]  الكيلاني، أثر التشيع في الأدب العربي، ص٢٥.
[9] من الغريب أن عمر لما اغتاله أبو لؤلؤة تمنى أن يكون سالم مولى أبي حذيفة حياً ليسلمه مقاليد الحكم ونسي هذا العملاق العظيم الذي لولاه لهلك عمر في موازين الفتيا والقضاء، كما أنه من الغريب كيف جعله من أعضاء الشورى وهو أدرى بمقامه وأعرف بقدراته؟!!
[10] الزمر، 9.

مصادر البحث

1ـ القرآن الكريم.
2ـ ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، بيروت، مؤسّسة الرسالة، الطبعة الأُولى، 1416 ه‍.
3ـ ابن شهرآشوب، محمّد، مناقب آل أبي طالب، النجف، المكتبة الحيدرية، طبعة 1376 ه‍.
4ـ الأميني، عبد الحسين، الغدير، بيروت، دار الكتاب العربي، الطبعة الرابعة، 1397 ه‍.
5ـ كيلاني، محمّد، أثر التشيّع في الأدب العربي، القاهرة، دار العرب، طبعة 1995م.
6ـ اليعقوبي، أحمد، تأريخ اليعقوبي، بيروت، دار صادر، بلا تاريخ.

مصدر المقالة (مع تصرف)

القرشي، باقر، موسوعة سيرة أهل البيت (ع)، تحقيق مهدي باقر القرشي، النجف، دار المعروف، الطبعة الثانية، 1433 ه‍، ج2، ص379 ـ ص392.

لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *