هذا المقال يهدف إلى إثبات إمامة الإمام الجواد (ع) عند الشيعة، من خلال بيان الأدلة الواضحة المقنعة والثابة في النصوص والمصادر الإسلامية الشيعية. فنقول: ما هي الأدلة التي تستند عليها الشيعة في إثبات إمامة الإمام الجواد (ع)؟
للإجابة على هذا السؤال المهم، يجب علينا الرجوع إلى مصادر مدرسة أهل البيت (ع) المعتبرة، للحصول على روايات المعصومين (ع) في هذا الخصوص. وفي الحقيقة، تعتبر سيرة الإمام الجواد (ع)، الإمام التاسع من أئمة أهل البيت (ع)، من أبرز وأوضح المحطات التاريخية التي شهدت تطورًا فريدًا وملحوظا في الفكر الإمامي الشيعي الإثني عشري، لا سيما مع توليه مقام الإمامة في سن مبكرة جدًّا. لم تكن إمامته مجرّد واقع تاريخي عابر، بل كانت ظاهرة استثنائية فرضت نفسها كتحدٍّ عقائدي وفكري وسياسي في عصر اتسم بالصراعات على السلطة والتحريفات والخرافات العقائدية.
جدل العقل والنص في تحديد إمامة الإمام الجواد (ع)
إن تولّي الإمام الجواد (ع) مهام الإمامة وهو في عمر سبع سنوات يمثّل “نقطة محورية تتطلب تحقيقًا وتدقيقًا عميقين”. هذا الحدث لم يكن له سابقة واضحة في تاريخ الإمامة الشيعية من حيث صغر السن بهذا القدر، مما أثار “إشكالات وتساؤلات” حول قدرة طفل على قيادة الأمة. طرح هذا الإشكال على الإمام الرضا (ع) في حياته، عندما سُئل: “إذا حدث أمر فلمن نرجع؟”، فأجاب: “إلى ولدي محمد أبي جعفر”. وحين استغرب السائلون لصغر سنه – ست سنوات آنذاك – رد الإمام الرضا (ع) بالاستدلال القرآني: “لقد كان عيسى بن مريم حجة وهو في المهد”. كما أشار إلى يحيى (ع) الذي أوتي الحكم صبيًّا. هذه الاستدلالات القرآنية قدّمت أساسًا شرعيًّا لإمكانية إيتاء النبوة أو الإمامة في سن الطفولة، مؤكدة أن “القدرة على الولاية الإلهية لا ترتبط بالضرورة بالنضج العمري”.
من منظور فلسفي وكلامي، يمكن تحليل هذا الجدل. فالعقل، كحكم في تقرير إمكان أو امتناع الشيء المرتبط بالواقع التكويني، “لا يمنع إسناد وممارسة وظائف الإمامة للإنسان الصغير السن”. القاعدة الأساسية في الفكر الفلسفي والكلامي تقول: “إن أية قضية نظرية لا تصطدم مع مستحيل من المستحيلات البديهية هي ممكنة”. وبالتالي، فإن القول بإسناد الإمامة لمن هو صغير السن مع توافر شروطها الأساسية، وهي “العلم والعصمة والكفاءة”، لا يستلزم منه أي محذور عقلي، “إذن هو أمر ممكن”. هذا الطرح تجاوز النظرة التقليدية للعقل التي تربط القيادة بالنضج العمري والتجربة الحياتية المكتسبة، ليؤكد أن “عظمة الإنسان بروحه ونفسه ومواهبه الربانية، لا بجسمه وأيام عمره”.
يُشير الباحثون في مقارنة الأديان إلى حالات مشابهة في الديانات الأخرى تدعم فكرة “الظاهرة الدينية” التي تقع كمقتضى للحكمة الإلهية. فمثلًا، تحدث القرآن الكريم عن حكمة يحيى (ع)، ونبوة عيسى (ع) في المهد، وهو ما يدعم هذا المنظور. يبرز ذلك أن العقل السليم لا يجد مانعًا في أن يكون الإنسان ذا بصيرة وعلم في سن مبكرة إذا كان ذلك بعون وتأييد إلهي.
وهنالك روايات متعددة ومعتبرة يصح الإستدلال بها لإثبات إمامة الإمام الجواد (ع)، فإليك أيها القارئ المحترم طائفة من تلكم الروايات:
1- عن محمّد بن أبي العلاء قال: سمعت يحيى بن أكثم ـ قاضي سامرّاء ـ بعدما جهدتُ به وناظرتُه وحاورته وواصلته، وسألته عن علوم آل محمّد (ص) فقال: بينا أنا ذات يوم دخلتُ أطوف بقبر رسول الله، فرأيت محمّد (الجواد) بنَ عليّ الرضا يطوف به، فناظرتُه في مسائل عندي، فأخرجها إليّ، فقلت له: واللهِ إنّي أريد أن أسألك مسألةً وإنّي لأستحيي من ذلك. فقال: أنا أُخبرك قبل أن تسألني، تسألني عن الإمام؟ فقلت: هو ـ واللهِ ـ هذا. فقال: أنا هو. فقلت: علامة؟ فكان في يده عصاً فنطقت وقالت: إنّ مولاي إمامُ هذا الزمان، وهو الحجّة[1].
وهذا الحديث يدل بوضوح بأن الإمامة عهد من الله تبارك وتعالى، وأن الإمام يملك العلم اللدني، ويعلم بتفاصيل الأمور، وتجري المعجزة على يديه لإثباة إمامته، للسائل ومن بلغ إليه الحديث الشريف.
2- عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص لَمَّا أُسْرِيَ بِي إِلَى السَّمَاءِ أَوْحَى إِلَيَّ رَبِّي جَلَّ جَلَالُهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي اطَّلَعْتُ عَلَى الْأَرْضِ اطِّلَاعَةً فَاخْتَرْتُكَ مِنْهَا فَجَعَلْتُكَ نَبِيّاً … ثُمَّ اطَّلَعْتُ الثَّانِيَةَ فَاخْتَرْتُ مِنْهَا عَلِيّاً وَجَعَلْتُهُ وَصِيَّكَ … وَخَلَقْتُ فَاطِمَةَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مِنْ نُورِكُمَا ثُمَّ عَرَضْتُ وَلَايَتَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَمَنْ قَبِلَهَا كَانَ عِنْدِي مِنَ الْمُقَرَّبِينَ يَا مُحَمَّدُ لَوْ أَنَ عَبْداً عَبَدَنِي حَتَّى يَنْقَطِعَ وَيَصِيرَ كَالشَّنِّ الْبَالِي ثُمَّ أَتَانِي جَاحِداً لِوَلَايَتِهِمْ فَمَا أَسْكَنْتُهُ جَنَّتِي وَلَا أَظْلَلْتُهُ تَحْتَ عَرْشِي يَا مُحَمَّدُ تُحِبُّ أَنْ تَرَاهُمْ قُلْتُ نَعَمْ يَا رَبِّ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا أَنَا بِأَنْوَارِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ وَعَلِيِّ بْنِ مُوسَى وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَمحمد بْنِ الْحَسَنِ الْقَائِمِ فِي وَسْطِهِمْ كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ- قُلْتُ يَا رَبِّ وَمَنْ هَؤُلَاءِ قَالَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ …[2]
وهذا الحديث أيضا يثبت بوضوح إمامة الإمام الجواد (ع)، وأن الإمام يجب أن تثبت إمامته من خلال اختيار الله تعالى له.
3- عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ لِعَلِيٍ (ع) أَنْتَ وَارِثُ عِلْمِي وَمَعْدِنُ حُكْمِي وَالْإِمَامُ بَعْدِي فَإِذَا اسْتُشْهِدْتَ فَابْنُكَ الْحَسَنُ فَإِذَا اسْتُشْهِدَ الْحَسَنُ فَابْنُكَ الْحُسَيْنُ فَإِذَا اسْتُشْهِدَ الْحُسَيْنُ فَعَلِيٌّ ابْنُهُ يَتْلُوهُ تِسْعَةٌ مِنْ صُلْبِ الْحُسَيْنِ أَئِمَّةٌ أَطْهَارٌ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا أَسَامِيهِمْ قَالَ عَلِيٌّ وَمُحَمَّدٌ وَجَعْفَرٌ وَ مُوسَى وَعَلِيٌّ وَ مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَالْمَهْدِيُّ مِنْ صُلْبِ الْحُسَيْنِ يَمْلَأُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً[3].
وهذه الرويات المعتبرة عند الشيعة الإمامية الإثني عشرية وغيرها من الروايات – تركنا ذكرها خوفا من الإطالة – الثابتة في مصادرهم المعتمدة تثبت بوضوح وجود النصوص والأدلة المثبتة لإمامة الإمام الجواد (ع).
ملاحظة: ولابد من الاشارة الى ان اثبات إمامة الامام الجواد (ع) لا يعتمد على ما ذكر من الروايات المتقدمة بل هناك ادلة عديدة نذكر منها:
1- النصوص العامة التي تدل على ان هناك اثني عشر خليفة واثني عشر اماما ومنها يشير الى اسماء الائمة (ع) فارجع الى الموقع / الاسئلة العقائدية / حديث اثني عشر خليفة / هو احد ادلة اثبات الإمامة .
2- ان النصوص الخاصة التي تثبت إمامة الامام الجواد (ع) كثيرة جدا وبعضها صحاح فمثلا ذكر الكليني في الكافي في الجزء الأول في كتاب الحجة باب الاشارة والنص على ابي جعفر الثاني (ع) اربعة عشر حديثا.
3-وذكر صاحب بحار الانوار 26 رواية تدل على إمامة الامام الجواد (ع) وايضا ذكر صاحب كتاب اثبات الهداة اكثر من 25 رواية.
إمامة الإمام الجواد في أحاديث الإمام الرضا عليهما السلام
هنالك مجموعة أخرى من الأحاديث يستند عليها الشيعة لإثبات إمامة الإمام الجواد (ع)، وهي أحاديث الإمام الرضا (ع)، حول إمامة الإمام الجواد (ع). عدة من روايات الإمام الرضا (ع) ترجع إلی قبل ولادة الإمام الجواد (ع) وعدة منها تربط ببعد الولادة. نذکر سبعة روايات من مجموع هذه الروايات. ستة روايات عن «الکافي للکليني» ورواية واحدة عن «عيون اخبار الرضا (ع) للشيخ الصدوق». أربعة من الروايات من مجموع هؤلاء السبعة وردت بأسانید معتبرة ومقبولة حسب قواعد علم الحديث.
الإمام الرضا (ع) تارة یذکر إمامة الإمام الجواد (ع) في الجواب عن أسئلة الآخرین وتارة یذکرها ابتداءً ومن دون أن یسأله أحد. ونحصل من مجموعة هذه الروايات أن الإمام الرضا (ع) لم یعرف صغر سن ابنه مانعا عن إمامته. الإمام الرضا (ع) في الحفلات المختلفة کان یذکر وینبه علی إمامة ابنه وتبیین هذه المسألة.
فإنّ الظاهرة التي وجدت مع هذا الاِمام وهي ظاهرة تولّي شخص للإمامة وهو بعد في سن الطفولة، على أساس أن التاريخ يتّفق ويُجمع على أنّ الإمام الجواد (ع) توفي أبوه وعمره لا يزيد عن سبع سنين. ومعنى هذا أنّه تولّى زعامة الطائفة الشيعية روحياً وفكرياً وعلمياً ودينياً وهو لا يزيد عن سبع سنين، هذه الظاهرة التي ظهرت لأول مرة في حياة الأئمة في الاِمام الجواد (ع). وبعض الأحیان الإمام یستند بنبوة عيسي (ع). الله تعالی في آية 30 من سورة مريم یذکر قول المسيح (ع) هکذا: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا.
وحسب هذه الآية؛ عيسي (ع) کان نبیا وهو فی المهد. ما الإشکال فی ان الله تعالی حسب قدرته، یجعل صبیا مثل جواد الائمة (ع) فی سبع سنین للتصدی ولیس لتبلیغ شريعة حدیثة، بل فقط لزعامة وخلافة شريعة أوجدت قبل قرنین؟
وإليك بعض تلك الأحاديث الشريفة:
الحديث الأول
عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (ع) أَنَّهُ سُئِلَ أَ تَكُونُ الْإمامة فِي عَمٍّ أَوْ خَالٍ فَقَالَ لَا فَقُلْتُ فَفِي أَخٍ قَالَ لَا قُلْتُ فَفِي مَنْ؟ قَالَ فِي وَلَدِي وَهُوَ يَوْمَئِذٍ لَا وَلَدَ لَه[4].
الحديث الثاني
يَقُولُ دِعْبِل بْنَ عَلِيّ الْخُزَاعِيّ: لَمَّا أَنْشَدْتُ مَوْلَايَ الرِّضَا (ع) قَصِيدَتِيَ الَّتِي أَوَّلُهَا: مَدَارِسُ آيَاتٍ خَلَتْ مِنْ تِلَاوَةٍ وَمَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ الْعَرَصَاتِ. فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَي قَوْلِي : خُرُوجُ إِمَامٍ لَا مَحَالَةَ خَارِجٌ *** يَقُومُ عَلَي اسْمِ اللَّهِ والْبَرَكَاتِ. بَكَي الرِّضَا (ع) بُكَاءً شَدِيداً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ فَقَالَ لِي يَا خُزَاعِيُّ فَهَلْ تَدْرِي مَنْ هَذَا الْإِمَامُ … يَا دِعْبِلُ الْإِمَامُ بَعْدِي مُحَمَّدٌ ابْنِي وبَعْدَ مُحَمَّدٍ ابْنُهُ عَلِيٌّ وبَعْدَ عَلِيٍّ ابْنُهُ الْحَسَنُ وبَعْدَ الْحَسَنِ ابْنُهُ الْحُجَّةُ الْقَائِمُ الْمُنْتَظَرُ …[5].
الحديث الثالث
عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلَّادٍ قَالَ سَمِعْتُ الرِّضَا (ع) وذَكَرَ شَيْئاً فَقَالَ مَا حَاجَتُكُمْ إِلَى ذَلِكَ هَذَا أَبُو جَعْفَرٍ قَدْ أَجْلَسْتُه مَجْلِسِي وصَيَّرْتُه مَكَانِي وقَالَ إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ يَتَوَارَثُ أَصَاغِرُنَا عَنْ أَكَابِرِنَا الْقُذَّةَ بِالْقُذَّةِ[6].
الحديث الرابع
عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى قَالَ قُلْتُ لِلرِّضَا (ع) قَدْ كُنَّا نَسْأَلُكَ قَبْلَ أَنْ يَهَبَ اللَّه لَكَ أَبَا جَعْفَرٍ (ع) فَكُنْتَ تَقُولُ يَهَبُ اللَّه لِي غُلَاماً فَقَدْ وَهَبَه اللَّه لَكَ فَأَقَرَّ عُيُونَنَا فَلَا أَرَانَا اللَّه يَوْمَكَ فَإِنْ كَانَ كَوْنٌ فَإِلَى مَنْ فَأَشَارَ بِيَدِه إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ (ع) وهُوَ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْه فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ هَذَا ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ فَقَالَ ومَا يَضُرُّه مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ قَامَ عِيسَى (ع) بِالْحُجَّةِ وهُوَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ [وَهُوَ ابْنُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ.][7]
الحديث الخامس
عَنِ الْخَيْرَانِيِّ عَنْ أَبِيه قَالَ كُنْتُ وَاقِفاً بَيْنَ يَدَيْ أَبِي الْحَسَنِ (ع) بِخُرَاسَانَ فَقَالَ لَه قَائِلٌ يَا سَيِّدِي إِنْ كَانَ كَوْنٌ فَإِلَى مَنْ قَالَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ ابْنِي فَكَأَنَّ الْقَائِلَ اسْتَصْغَرَ سِنَّ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ (ع) إِنَّ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى بَعَثَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ (ع) رَسُولاً نَبِيّاً صَاحِبَ شَرِيعَةٍ مُبْتَدَأَةٍ فِي أَصْغَرَ مِنَ السِّنِّ الَّذِي فِيه أَبُو جَعْفَرٍ[8]
رد على شبهة إمامة الإمام الجواد (ع) في الصّبی
نهض الإمام الجواد (ع) بأعباء الإمامة الشرعية للمسلمين وهو بعد لمّا يبلغ الحلم على نحو ما حدث لعيسى بن مريم (ع) حيث أُوتي النبوّة في المهد، وقد أوجدت هذه الظاهرة حالة من التساؤل والتشكيك لدى البعض من الموالين لأهل البيت (ع) والمعتقدين بإمامتهم بعد رسول الله (ص)، لكن الإمام (ع) استطاع أن يدحض هذه التشكيكات ويجيب على التساؤلات المعلنة والخفيّة بما أوتي من فضل وعلم وحكمة وحنكة.
أما التساؤلات فقد تمّ حسمها بدرجة ما، من خلال الأحاديث والتوجيهات والإشارات التي صدرت عن والده الإمام الرضا (ع) وانتشرت بين مقرّبيه ورؤساء القوم الموالين لأهل البيت (ع) في البلدان كمصر والحجاز والعراق وبلاد فارس.
على أنّ الإمام الجواد (ع) نفسه قد قام بنشاط واسع لتبديد تلك الشكوك التي أُثيرت بشكل أو بآخر بعد وفاة الإمام الرضا (ع) وهو ما نفهمه من خلال بعض الروايات الواردة بهذا الشأن، ومنها ما يلي:
أ ـ أورد السيد المرتضى (ره) في عيون المعجزات أنّه: لما قبض الرضا (ع) كان سن أبي جعفر (ع) نحو سبع سنين، فاختلفت الكلمة بين الناس ببغداد وفي الأمصار، واجتمع الريّان بن الصلت، وصفوان بن يحيى، ومحمد بن حكيم، وعبد الرحمن بن الحجّاج، ويونس بن عبد الرحمن، وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبد الرحمن بن الحجاج في بركة زلول، يبكون ويتوجّعون من المصيبة، فقال لهم يونس بن عبد الرحمن: دعوا البكاء مَن لهذا الأمر والى من نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا؟ يعني أبا جعفر(ع).
فقام إليه الريّان بن الصلت، ووضع يده في حلقه، ولم يزل يلطمه، ويقول له: أنت تظهر الإيمان لنا وتبطن الشك والشرك. إن كان أمره من الله جل وعلا فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقه، وان لم يكن من عند الله فلو عمّر ألف سنة فهو واحد من الناس، هذا ممّا ينبغي أن يفكّر فيه فأقبلت العصابة عليه تعذله وتوبّخه. وكان وقت الموسم، فاجتمع فقهاء بغداد والأمصار وعلماؤهم ثمانون رجلاً، فخرجوا إلى الحج، وقصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر(ع)، فلمّا وافوا أتوا دار جعفر الصادق (ع) لأنها كانت فارغة، ودخلوها وجلسوا على بساط كبير، وخرج إليهم عبد الله بن موسى، فجلس في صدر المجلس وقام مناد وقال: هذا ابن رسول الله فمن أراد السؤال فليسأله. فسئل عن أشياء أجاب عنها بغير الواجب فورد على الشيعة ما حيّرهم وغمّهم. واضطرب الفقهاء، وقاموا وهمّوا بالانصراف، وقالوا في أنفسهم: لو كان أبو جعفر(ع) يَكُمل لجواب المسائل لما كان من عبدا لله ما كان، من الجواب بغير الواجب.
ففُتح عليهم باب من صدر المجلس ودخل موفّق وقال: هذا أبو جعفر، فقاموا إليه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه فدخل صلوات الله عليه، وعليه قميصان وعمامة بذؤابتين وفي رجليه نعلان وجلس وأمسك الناس كلهم، فقام صاحب المسألة، فسأله عن مسائله، فأجاب عنها بالحق، ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه وقالوا له: إن عمّك عبد الله أفتى بكيت وكيت، فقال: «لا اله إلاّ الله يا عمّ إنّه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك: لِمَ تفتي عبادي بما لم تعلم، وفي الأمة من هو أعلم منك؟!»[9].
ب – وقال إسماعيل بن بزيع: سألته ـ يعني أبا جعفر الثاني(ع) عن شيء من أمر الإمام، فقلت: يكون الإمام ابن أقلّ من سبع سنين؟ فقال (ع): «نعم وأقل من خمس سنين»[10].
ج ـ قال علي بن أسباط: «رأيت أبا جعفر (ع) وقد خرج عليّ فأخذت أنظر إليه وجعلت انظر إلى رأسه ورجليه، لأصف قامته لأصحابنا بمصر فبينا أنا كذلك حتى قعد، فقال (ع): يا عليّ ! إن الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج في النبوة، فقال: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً)[11]، (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ)[12]، (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)[13]، فقد يجوز أن يؤتى الحكمة وهو صبي ويجوز أن يؤتاها وهو ابن أربعين سنة»[14]. ولا نتردد بالقول إنّ تصدي الإمام الجواد (ع) لإمامة المسلمين وهو صبي كان معجزة بذاته.
النتيجة:
من خلال البيانات والحجج والبراهين المذكورة نصل إلى نتيجة أن الأدلة على إثبات إمامة الإمام الجواد (ع) واضحة – كوضوح الشمس في رابعة النهار – في مصادر الشيعة. وإن سيرة الإمام الجواد (ع) ليست مجرد فصل تاريخي في حياة الأئمة (ع)، بل هي منظومة فكرية وعقائدية متكاملة قدّمت دروسًا عميقة حول طبيعة الإمامة الإلهية، والعلم اللدني، ودور القيادة الروحية في مواجهة التحديات السياسية والعقائدية.
ولقد كانت إمامته المبكرة بمثابة “تحدٍّ حقيقي” للعقل البشري المعتاد على ربط القيادة بالنضج العمري، وأثبتت بالبرهان العملي أن الاصطفاء الإلهي يتجاوز كل هذه الحسابات. كما أن تأثير إمامته امتد لقرون لاحقة، ممهّدًا لقبول فكرة الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عج)، وترسيخ مفاهيم مركزية في الفكر الشيعي كالاعتماد على العلم اللدني، والولاية المطلقة للإمام، وضرورة الثبات على الحق في مواجهة الشبهات والتحريفات.
الهوامش
[1] – الكليني، الكافي، ج1، ص353. – الطبري، دلائل الإمامة، ص132. – الحر العاملي، إثبات الهداة، ج3، ص329. – الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج10، ص450. – الفيض الكاشاني، الوافي، ج2، ص178. – المجلسي، مرآة العقول، ج4، ص99. – المجلسي، بحار الأنوار، ج50، ص67.
[2] – الصدوق، كمال الدين، ص 252 – 253.
[3] – الخزاز القمي الرازي، كفاية الأثر، ص167.
[4] – الكليني، الكافي، ج1، ص: 286.
[5] – الصدوق، عيون أخبار الرضا (ع)، ج2، ص297.
[6] – الكليني، الكافي، ج1، ص320.
[7] – الكليني، الكافي، ج1، ص321.
[8] – الكليني، الكافي، ج1، ص384.
[9] – المجلسي، بحار الأنوار، ج50، ص99-100.
[10] – الكليني، الكافي، ج1، ص384.
[11] – سورة مريم، 12.
[12] – سورة القصص، 14.
[13] – سورة الأحقاف، 15.
[14] – الكليني، الكافي، ج1، ص314.
المصادر والمراجع:
- القرآن الكریم
- الحر العاملي، إثباة الهداة بالنصوص والمعجزات، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1422ه.
- الحر العاملي، محمد بن حسن، وسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت، قم، 1409ه.
- الخزاز القمي، علی بن محمد، كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثنی عشر، انتشارات بيدار، قم، 1401ه.
- الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، عيون أخبار الرضا (ع)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1404 هـ.
- الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، انتشارات اسلامية، تهران، 1395ه.
- الطبري، محمد بن جرير بن رستم، دلائل الإمامة، بعثت، قم، 1413ه.
- الكاشاني، الفيض، الوافي، كتابخانه امير المؤمنين، اصفهان، 1406ه.
- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1388 هـ.
- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1403 هـ.
- المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول، دار الكتب الإسلامية، تهران، 1404ه.