أوجه الشبه بين الإمام المهدي والنبي موسى عليهما السلام

أوجه الشبه بين الإمام المهدي والنبي موسى عليهما السلام

2025-01-29

19 بازدید

تناولت عدة سور قرآنية حياة النبي موسى (ع) بدءًا من ولادته، ومروراً بظروف خفاء ولادته، ثم نشأته في الخفاء، كما تطرقت إلى غيبته عن بني إسرائيل منذ صغره، حيث كان قومه يتطلعون إليه كمنقذ ومغيث لهم من ظلم الفراعنة الذين استعبدوا بني إسرائيل، وأن حياته (ع) مشابه جدَّاً لحياة الإمام المهدي (ع)، الذي وعد به النبي (ص).

علّة اختفاء النبي موسى عن قومه

عند قراءة سورة القصص، وهي إحدى السور التي تستعرض حياة النبي موسى بدءًا وانتهاءً، يقول تعالى: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[1]، نجد أنَّ الله تعالى قد قصَّ قصّة حُجّةٍ من حُججه، وليس هو نبيّ ومرسل من آحاد أو أوساط المرسلين، بل هو نبيّ من أولي العزم، فما يتلوه القرآن وينبئنا به من حديث النبي موسى وفرعون هو إنباء بالحقّ وليس إنباءً بالكذب والباطل، فكلّ ما يستعرضه لنا القرآن هو حقّ، وهذه التلاوة والإنباء من الله تعالى عن ظاهرة النبي موسى وفرعون هي ظاهرة يتلوها وينبؤها القرآن لقوم يؤمنون بوجود مثل هذه السنن الإلهية في حججه، ويؤمنون بهذه السنن الإلهية في الحُجج المنصوبين لنجاة البشرية ولإصلاح الوضع البشري.

إنَّ فرعون هو الظاهرة الأولية التي استدعت بعثة النبي موسى كمنج ومصلح، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ[2].

وفي الحديث: ذكر رسول الله (ص) بلاءً يصيب هذه الأمّة، حتَّى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم، فيبعث الله رجلاً من عترتي من أهل بيتي فيملأ الأرض قسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً[3].

أنظر وقع السنن الإلهية، هي نفس السنن، الظهور بالعدل والقسط بعد ما تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، فالظلم والفساد تفشّى في الأرض في حقبة الفراعنة، حينئذٍ تأتي السنن الإلهية، وذلك عندما يتفشّى الفساد وينتشر الظلم.

وهنا تبدأ البيئة التي بُعث فيها النبي موسى (ع) لأجل الإنجاء والإصلاح، وهي بيئة تفشّى الظلم والفساد فيها، وبالمقابل تأتي السُنّة الإلهية، لكي تكون العاقبة للإصلاح.

ما هي أسباب خفاء ولادة النبي موسى رغم أنَّه هو المنجي الموعود لبني إسرائيل في تلك الحقبة، وهو المصلح لهم، وهو المنقذ لهم من استعباد الفراعنة وإفسادهم في الأرض، جعل الله ولادة هذا المنجي وهذا المصلح في خفاء وغيبة وسرّية، ليس فقط عن فرعون والفراعنة والجهاز الحاكم على البلاد الباطش في العبيد والبشر، بل في خفاء حتَّى عن مريدي النبي موسى والمؤمنين به والمتوقّعين لظهوره وإنجائه وإصلاحه، فجعل ولادته في خفاء.

ورغم هذا الخفاء لم يخل ذلك باعتقاد المؤمنين من بني إسرائيل في كون النبي موسى هو حجّة من قِبَل الله تعالى موعود منصوب لنجاتهم وإنقاذهم من براثن الفساد والظلم الفرعوني.

الخفاء أدلّ على الحجّية

بل هذا الخفاء أدلُّ برهانٍ على حجّية الموعود للإنجاء، لماذا؟

لأنَّ الحجّة بطبيعته سيصطدم مع قوى الظلم ومع سطوة وسلطات المفسدين في الأرض، ومن الواضح أنَّهم سوف يقعون في معترك وتصادم معه، ومن الطبيعي أنَّهم سيضعون برنامجاً لتصفية ذلك المصلح.

وعليه فمن الطبيعي أن يكون في برنامج العناية الإلهية ومخطَّط القدرة الربّانية إخفاؤه بدءاً من الولادة، أنظر ماذا يقول لنا القرآن في ظاهرة النبي موسى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ[4].

حيث يكشف لنا من خلال هذه الآية عن جوّ مليئ بالإرهاب والخوف، وأنَّ المصلح ومنذ بدوّ تولّده ولأنَّه موعود بإصلاح قومه ونجاتهم من براثن الفساد والظلم، ومن ثَمَّ فإنَّ قوى الظلم وقوى البطش تريد أن تحيق به عن طريق الإعدام والإبادة من بدء الولادة، ومن ثَمَّ تكون هناك عناية إلهية في خفاء الولادة.

فإخفاء الولادة ليس أمراً أسطورياً في الحجج، بل هو حقيقة يستعرضها لنا القرآن، وهي أنَّه قد يكون نبيّ مرسل من أولي العزم موعوداً بكونه هو المنجي وهو المصلح وهو المنقذ لبني إسرائيل من براثن الظلم والفساد في الأرض، ومع ذلك تُخفى ولادته، لماذا؟

لأنَّ ذلك أمر طبيعي يتعقّله العقل الإنساني في أنَّ بشائر ذلك المصلح الموعود المنجي الذي تنتظره قلوب المؤمنين في تلك الحقبة، سوف تُعبّأ ضدّه إرادة الظلمة والأنظمة.

العنف والاضطهاد ضدّ الإمامين العسكريين

أنظر إلى حياة الإمام الهادي والإمام العسكري (ع)، حيث استُدعيا من المدينة المنوَّرة، وجُعلا سجينين عسكريين، إذ كانت سامراء والتي تسمّى بـ «سُرَّ من رأى» أكبر قاعدة عسكرية ربَّما في الكرة الأرضية لدولة عظمى لما يقارب من ثلاثين أو أربعين دولة في الوضع الراهن من ناحية المساحة، إذن هي دولة بهذا الاتّساع وبهذه القوّة وبهذا البطش وهذه السطوة، والقاعدة العسكرية لهذه الدولة كانت سُرَّ من رأى، ولمَّا يُسجن الإمام الهادي والإمام العسكري في مدينة عسكرية ذات أهمّية كهذه يتَّضح جلياً أنَّ النظام العبّاسي كان عنده تعبئة واستنفار وخوف خاصّ واصلٌ إلى درجة تعبوية قصوى يجعل من ذلك الطرف ليس سجيناً مدنياً وليس سجيناً سياسياً فحسب، بل يجعله سجيناً عسكري، وهذا خوف مسلَّم به من ذلك الشخص.

وهذا أوّل دليل وأكبر شاهد تاريخي في سيرة المسلمين عرفه المسلمون عن تخوّف السلطة العبّاسية من ولادة المهدي (ع)، وهو أنَّ الإمام الهادي والإمام العسكري سُجنا وجُعلا تحت رقابة الحكم العسكري، وإنَّ هذا الاستنفار التعبوي في درجته القصوى يشبه إلى حدّ التطابق تلك التعبئة التي اتّخذها فرعون تجاه المصلح وهو النبي موسى، هنا تشاكلت السنن بين حجج الله.

إذن خفاء ولادة الإمام المهدي (ع) وما أنِسَه وعرفه المسلمون والمؤمنون من أمرها في ظلّ تلك الظروف التي استدعي فيها الإمام الهادي (ع)، وما كان ذلك إلاَّ لِتَحسُّب الدولة العبّاسية آنذاك من ظهور هذا المصلح الموعود الذي روى الفريقان فيه ما يقرب من اثني عشر ألف حديث.

الوحي الإلهي لاُمّ موسى

الآية تقول: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى، فما معنى هذا الوحي؟ فاُمّ موسى ليست بنبيّ وليست برسول، هذه ظاهرة قرآنية واضحة، وهو أنَّ هناك من الأوصياء ومن الحجج الإلهيين غير الأنبياء وغير الرسل يوحى إليهم، هذه الظاهرة القرآنية لا تفسّرها غير مدرسة أهل البيت (ع).

فإنَّ اُمّ موسى أوحي إليها أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ[5]، هذا ليس وحياً تكوينياً أو غريزة تكوينية، كلاَّ، وإنَّما أمر أَنْ أَرْضِعيهِ، والأمر يعني وحياً إنشائياً، لكن ليس وحي نبوّة، وليس وحي شريعة، وإنَّما هو وحي إنشائي في الحجج الإلهية.

وخفاء النبي موسى هذا النبي الذي كانت تتوقَّعه بنو إسرائيل وتنتظره كمصلح ومنج، وقد انتشرت بشائره إلى أسماع السلطة الحاكمة الباطشة آنذاك وهي سلطة الفراعنة، فحاولت تصفية نسل بني إسرائيل للحيلولة دون تولّد هذا المصلح، وشاكل ذلك ما مارسته السلطة في الدولة العبّاسية في تلك الحقبة من استقدام الإمام علي الهادي (ع) إلى القاعدة العسكرية آنذاك، وتحت رقابة عسكرية، فكأنَّما هم في حالة استنفار وتعبئة عسكرية، وليست حالة تعبوية سياسية.

وكأنَّما هناك نوعاً من التيّار الجارف الذي يُمهَّد له الإمام الهادي والإمام العسكري (ع) لظهور ابنهم الإمام الثاني عشر، سيّما وقد نصَّ النبي (ص) على أنَّ الأئمّة الخلفاء من بعده اثنا عشر وكلّهم من قريش، وفي بعض الروايات: من هذا البطن من بني هاشم، وقد سمعوا بتلك الأحاديث المتواترة.

حينئذٍ هذه الذاكرة المليئة بالأحاديث النبوية والبشائر النبوية، بل والقرآنية تجعل السلطة في حالة استنفار تعبوي عسكري، هذا الذي شوهد في التاريخ بنحو قطعي واستعرضته كلّ كتب المسلمين من سجن الإمام الهادي والإمام العسكري في تلك القاعدة العسكرية التي تدعى بـ (سُرَّ من رأى) والتي تدعى الآن: (سامراء) وهي مثوى الإمامين الشريفين (ع) هناك.

نعم، هذه هي الحالة التي واكبت ولادة الإمام المهدي بالضبط، وهي التي يستعرضها لنا القرآن عندما واكبت مصلحاً سابقاً في الأدوار والأحقاب البشرية السابقة، بنفس الشاكلة.

وظاهرة خفاء ولادة النبي موسى فيها أمر عجيب وهو أنَّ قدرة الله ليست محدودة ولا متناهية، ويستطيع سبحانه أن يحفظ وليّه وحجّته في أحضان عدوّه، إذ قال تعالى: فَالتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ[6].

إذن ما الذي تستبعده البشرية في ولادة الإمام المهدي المنتظر (ع) في حين كان أبوه وجدّه (ع) محاصَرَين في قاعدة عسكرية، أي إنَّ الدولة متّخذة ضدّهما التعبئة والاستنفار العسكري، والنظام إذا كان يتوجَّس من انقلاب عسكري فإنَّه سيعلن حالة الطوارئ العسكرية والاستنفار العسكري، والدولة العبّاسية طيلة حياة الإمام الهادي، وطيلة حياة الإمام العسكري (ع) كانت تعيش حالة تعبئة واستنفار عسكري، هذا ما سجَّله لنا التاريخ وكتب الروايات.

إذن التعبئة العسكرية كانت موجودة كما هو في حالة النبي موسى، وأنَّ آل فرعون رغم تعبئتهم ورغم استنفارهم لاستئصال وذبح كلّ نسل بني إسرائيل إلاَّ أنَّ آل فرعون التقطوه ليكون لهم عدوّاً وحزن، لأنَّ قدرة الله تحفظ وليّه وحجّته والمبعوث مصلحاً ومنجياً في أحضان عدوّه بحماية الله.

النبي موسى كان يترعرع وينمو وينشأ في أحضان العدوّ وعلى بساط النظام الغاشم الظالم، لكن مع ذلك لم يكن يعرف هوية النبي موسى، هذه الغيبة من النبي موسى وخفاء ولادته ونشوئه وترعرعه ليست غيبة مقابل حضور، بل هو حاضر لديهم، إنَّما هي غيبة هوية، غيبة معرفة، غيبة تشخّص.

سرّ استعراض تفاصيل خفاء ولادة موسى

إنَّ لهذه القصّة وتفاصيلها حول خفاء ولادة موسى (ع) مغزى عظيم وحكمة يتَّعظ بها المسلمون في قراءتهم للقرآن، نعم، هو محطّة جيّدة للتأمّل والتدبّر والتمعّن، فإنَّ هذه التفاصيل التي تستعرضها سورة القصص بمفردها، فضلاً عن السور الأخرى بتفاصيل وملابسات وشؤون وشجون خفاء الولادة والرعب الذي لابسها، والمراحل التي ترعرع فيها النبي موسى (ع)، كلّ ذلك لتبيان القرآن بشكل واضح على أنَّ خفاء ولادة المصلح الموعود المنجي وكيفية ترعرعه ونشأته عن المؤمنين به، وعن المستضعفين في الأرض كما هو الحال مع النبي موسى وذلك بعد تفشّي الظلم وفساد الفراعنة والنظام الفرعوني في أرجاء الأرض لا تتنافى مع حجّيته، لأنَّ هذه سُنّة إلهية في الحجج المبشّرين والموعود بهم من قِبَل الله تعالى في البشائر السماوية، لأنَّهم مصلحون ومنتظرون للإصلاح ونجاة البشرية.

ومن الطبيعي أنَّ تلابس نشأتهم وولادتهم وترعرعهم حالةٌ من الخفاء يتسنّى لهم من خلالها ممارسة دورهم وبسط نفوذهم وقدرتهم.

ومفهوم الغيبة ليس المراد منه غياب حضور، وإن كان كثر في الكتابات والألسن أنَّ الغيبة في مقابل الحضور، وهذه في الواقع مفهومة مغلوطة، الغيبة مقابل الظهور وليست مقابل الحضور، فالإمام حاضر، والحجّة الإلهية حاضرة، النبي موسى الذي استعرض لنا القرآن أمره كان حاضراً، غاية الأمر أنَّه كان مخفيّاً خفاء هوية، غائباً عن معرفة أولئك به، لا غائباً وجوداً، وإلاَّ فهو في كبد الحدث، وفي صلب الحدث.

أنظر التعبير في الآية: وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا، إنَّما غيبته عدم معرفتهم به وهو موجود بين أيديهم حاضر عندهم، هذا معنى الغيبة، أي عدم الشعور بالموجود، عدم الشعور بالحاضر، كما قال تعالى: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ[7].

وأنَّ هناك ثلّة من الحجج ومن شابههم، يعرفون بموضع المصلح والمنجي والمنقذ، لكن هناك حصانة وحراسة إلهية ضاربة لتأمين حياة وجود هذا المصلح وهذا الموعود، وهناك تأمين وضمانة إلهية لحراسة هذا المنقذ في ترعرعه وفي نشأته وفي استمرار حياته وفي تكوين قاعدته، ونفوذه وقدرته.

خفاء موسى بعد نبوّته في بني إسرائيل

تقول الآية: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ [8]، نعم، بعدما ذكر القرآن ولادة النبي موسى وما قد رافقها من المخاطر والاستتار الشديد جدَّاً بحراسة إلهية قصوى، وتقدير وضمانة إلهية لوالدة النبي موسى (ع) ولأخته ولذويه بأن يحفظ الله تعالى هذا المصلح الذي تترقّبه القلوب وتنتظره أفئدة المؤمنين، وتتوجَّس منه خيفة قلوب الفراعنة لكونه يقوّض أنظمتهم، بعد ذلك يواصل لنا القرآن حالات النبي موسى (ع) باعتباره مُصلحاً ومُنجياً للبشرية في تلك الحقبة.

حيث نجد في السور القرآنية أنَّ هناك مقارنة متلازمة بين اسم النبي موسى وفرعون، تقارن الإصلاح مع الظلم، أو تقارن الظالم مع المصلح، هذا التقارن مع عاقبة الإصلاح في الحقيقة يدلّل على أنَّ النظام الفرعوني هو نظام البطش والظلم الإفساد في الأرض.

وكان النبي موسى يؤثّر في مجمل أوضاعهم في حدود معيّنة مقدَّرة من قِبَل الله تعالى من دون أن يشعروا به ومن دون أن يعرفوه، حيث كان يتفاعل مع مجمل الأحداث التي تجري على بني إسرائيل، لكن من وراء ستار غياب الهوية، من وراء ستار خفاء الشخصية، مع كونه موجوداً بين أيديهم.

بعد ذلك تواصل الآيات: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ [9]، فهو ظهير للمستضعفين، وهو في حين لم تأتِ ساعة الصفر لظهوره، أو إعلان دعوة إصلاحه وإنجائه لبني إسرائيل وللمؤمنين من براثن الفراعنة، كان مع ذلك يزاول تدبير الحدث في خضم وفي وسط هذا الخفاء وفي وسط هذا الستار، فهو لم يكن معطّلاً قبل ظهوره، بل كان متفاعلاً مع الحدث، فَأَصْبَحَ فِي المَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ [10]

فهاهنا في خضم تفاعل النبي موسى مع الأحداث وتأثيره في الحدث العامّ الذي يجري على بني إسرائيل كان في حال خوف، وستر وسرّية لئلاَّ ينكشف.

إيجابية صفة الخوف عند الأنبياء

إنَّ هذا الخوف ليس صفة شخصية أو خوفاً على شخصه، فالنبي موسى والأنبياء (ع) إنَّما كانوا يخافون على عدم استتمام المهمّة التي أوكلت إليهم، ويخافون على التقصير أو عدم الوصول إلى الغرض فيما اُوعز إليهم من رسالة وإصلاح وإنجاء، سيّما في البرنامج الموسوي الذي اُودع إليه من قِبل الله تعالى.

فهذا الخوف في الواقع خوف على الهدف، فلم يكن لموسى خوف شخصي على نفسه، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا[11].

لقاء موسى بشعيب

وتقصُّ لنا الآية الغيبة الثانية والخفاء الثاني للنبيّ موسى (ع)، وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ [12]، إلى أن تصل إلى لقاء موسى بالنبي شعيب.

وهنا محطّة أخرى، وهي أنَّ هذا المصلح المنجي الموعود يلتقي مع حجج آخرين لله، فهناك نوع من الشبكة المتّصلة بين أولياء الله، هناك نوع من المجموعات المرتبطة مع بعضها البعض، وكلّ محطّة في ظاهرة النبي موسى فيها وقفات تستدعي الانتباه بإمعان، منها هذه المحطّة التي هي غيبة ثانية تستعرضها لنا سورة القصص في ظاهرة النبي موسى.

وهذا الخفاء وهذه الغيبة تأتي بجانب ما أوتي النبي موسى من بدء ولادته من الخفاء والسرّية إلى ترعرعه وبلوغ أشدّه واستوائه، بعد ذلك تأتي مرحلة أخرى امتدَّت أكثر من عشر سنين عندما استأجره النبي شعيب، قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ[13].

حيث إنَّه أتمَّ عشراً كما ورد في الروايات، فيتَّضح أنَّ هناك غيبة أخرى ثانية طالت أكثر من عشر سنين، من ذهابه إلى مدين، ثمّ مكثه عشر سنين أو أكثر عند النبي شعيب.

تلاؤم حجّية النبي موسى نبيّاً مع غيبته

ولسائلٍ أن يسأل: هل هناك تنافٍ وتقاطع بين نصب الله تعالى حجّة من حججه مصلحاً ومنجياً وموعوداً منتظراً في تلك الحقبة وبين غيبته؟ سيّما أنَّ هذه الغيبة الثانية بيَّنت ومن خلال سورة القصص أنَّه لمَّا توجَّه تلقاء مدين مكث ما يربو ويزيد على العشرة، وكان ذلك أجلاً ثانياً في غيبة النبي موسى، والتقى فيها مع النبي شعيب، وكانت محطّة لقاء حجج الله ومجموعة من أصفياء الله مع بعضهم البعض في تدبير الأمور الإلهية، فكيف يتلائم هذا مع الغيبة؟! أليس هناك تقاطع؟ أليس هناك تدافع؟

هذه الإثارات والتساؤلات ناجمة ومنبعثة من فهم خاطئ لمعنى الغيبة، وقد مرَّ بنا أنَّ معنى الغيبة ليست هي عدم وجود النبي موسى في ساحة الحدث، وليس معنى الغيبة مزايلة النبي موسى عن موقعيته في التأثير في الأحداث، ولا نأيه ولا ابتعاده عن التصدّي لمجمل الأمور، فهذا معنى خاطئ للغيبة، وهكذا معنى الغيبة للإمام المهدي، فالبعض _ وربَّما من أتباع مدرسة أهل البيت فضلاً عن المدارس الإسلاميّة والملل والنحل الأخرى _ ربَّما ينساق إليهم معنى الغيبة بمعنى النأي والابتعاد عن مجمل المسؤولية أو التدبير أو الاضطلاع بكامل البرنامج الإلهي.

فنقول: ليس ذلك هو معنى الغيبة، فتارةً تكون الغيبة في مقابل الحضور كقولنا: غاب وحضر، وتارةً الغيبة تكون مقابل الظهور، وهي التي تتَّخذ معنى الخفاء والسرّية والستار، فإنَّ موسى ترعرع في أحضانهم وبين أيديهم لكنَّهم لا يشعرون به، فهي إذن غيبة خفاء، غيبة هوية، غيبة ستر وستار، لا غيبة انعدام ومزايلة عن الحضور.

التعابير القرآنية السابقة تظهر مجمل حركة النبي موسى قبل إعلان دعوته في العلن، أنَّها كانت دوماً في حالة خفاء، دخوله، خروجه، ترعرعه، نشوؤه، نموّه، وهذا ليس من الأسطوريات؟! حاشا لأفعال الله تعالى ولرسله تعالى عن ذلك، وإنَّما هي في صلب خضم التدبير الإلهي الحكيم النافذ البالغ الحكمة، لأجل حيويةٍ أكثر ونشاطٍ أكثر لقيام ذلك المصلح بدوره في مرحلة الخفاء والسرّية إلى أن تُستكمل قدراته ونفوذه، وتتهيَّأ الأرضية له، حينئذٍ تأتي ساعة الصفر وساعة الظهور والإعلان.

إعلان الدعوة الموسوية

عندما أعلن النبي موسى دعوته وظهر باعتباره مصلحاً ومنجيا، كيف بدأ ظهوره مصلحاً ومنجياً أمام الفراعنة والأقباط والمجتمع من بني إسرائيل؟ قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الوَادِ الأَيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ[14]، هنا بدأ المسؤولية في الإعلان والظهور: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [15]، هذا النظام الجاثم على كبد البشرية في تلك الحقبة.

ظاهرة اختفاء وغيبة الأنبياء سُنّة إلهية

بعد أن استكملنا ظاهرة النبي موسى باعتباره مصلحاً ومنجياً إلهياً وهادماً لعروش الفراعنة والظالمين وما رافق ذلك من خفاء ولادته (ع) وغيبته في فترة ترعرعه ونموّه ونشوئه، ثمّ غيبته الثانية في بلاد مدين، ثمّ قيامه بالإعلان والظهور للإصلاح وإنقاذ بني إسرائيل والبشرية من مخالب الظالمين والمفسدين، نواجه هنا هذا السؤال، وهو:

هل ما جرى في ظاهرة النبي موسى هو سُنّة إلهية دائمة في المصلحين والمنجين للبشرية؟

والجواب: نعم هي سُنّة إلهية حاصلة أيضاً في أمّة رسول الله، كما في قوله تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا.[16]

فهذه محاسبات في التقدير والقدر والقضاء الإلهي، كما وقعت في الأمم التي خلت ستقع في هذه الأمّة، فليكن ذلك عِبرةً وعِظةً لكم، ولا تكونوا من طائفة المكذّبين، بل كونوا من طائفة المؤمنين، ولا تكونوا من طائفة الجاهلين، بل كونوا من طائفة العالمين.

فكلَّما وجدت حالة تفشّي فساد وظلم، تأتي حينئذٍ السنن الإلهية: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ [17]، ونريد هذه إرادة كسُنّة إلهية تتكرّر دوماً وتستمرّ.

الاستنتاج

أن حياة النبي موسى كما وردت في عدة سور قرآنية، بدءًا من ولادته في خفاء، مرورا بنشأته، وحتى غيبته عن بني إسرائيل، وكان قومه يتطلعون إليه كمنقذ من ظلم الفراعنة، يبرز أوجه الشبه بين حياة موسى وحياة الإمام المهدي (ع)، حيث يعكس كل منهما سنناً إلهية تتعلق بالغيبة والظهور في ظل الفساد والظلم، وأن الخفاء الذي رافق ولادة موسى كان جزءًا من خطة إلهية لحمايته، مما يعكس قدرة الله على الحفاظ على حججه في أحضان أعدائهم.

الهوامش

[1] القصص، 3.

[2] القصص، 4.

[3] المجلسي، بحار الأنوار، ج51، ص104.

[4] القصص، 7.

[5] القصص، 8.

[6]  القصص، 8.

[7] القصص، 9 و10.

[8] القصص، 14.

[9] القصص، 17.

[10] القصص، 18.

[11] القصص، 19.

[12] القصص، 22.

[13] القصص، 27 _ 29.

[14] القصص، 29 و30.

[15] طه، 24.

[16] الأحزاب، 62.

[17] القصص، 5.

مصادر البحث

1ـ القرآن الكريم.

2ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه‍.

مصدر المقالة (مع تصرف)

السند، محمّد، الإمام المهدي (ع) والظواهر القرآنية، تحقيق مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (ع)،  النجف، بقية العترة، الطبعة الثالثة، 1444 ه‍، ص29ـ 64.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *