يُعتبر النص على الإمام (ع) أمراً ضرورياً لدى الشيعة الإمامية في تحديد هوية الإمام ونفي أي شك حوله، وقد تواترت النصوص الدالة على إمامة الإمام زين العابدين (ع)، ونشير إلى بعض تلك النصوص الواردة:
1- إن الرسول الأعظم (ص) عين أوصياءه وخلفاءه الاثني عشر من بعده، وصرح بأسمائهم، ومنهم الإمام زين العابدين (ع)، وقد تظافرت النصوص بذلك[1].
2- إن الإمام أمير المؤمنين (ع) قد نص على إمامة حفيده الإمام زين العابدين (ع)، وذلك حينما حضرته الوفاة، فقد أوصى إلى ابنه الزكي الإمام الحسن (ع) وعينه من بعده، ودفع إليه مواريث الأنبياء، وأشهد على ذلك ولده الإمام الحسين ومحمد بن الحنفية، وجميع أولاده ورؤساء شيعته.
وقال للإمام الحسين (ع): إِنَّكَ الْقَائِمُ بَعْدَ أَخِيكَ الْحَسَنِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ (ص) يَأْمُرُكَ أَنْ تَدْفَعَ الْمَوارِيثَ مِنْ بَعْدِكَ إِلَى وَلَدِكَ زَيْنِ العابدينَ، فَإِنَّهُ الْحُجَّةُ مِنْ بَعْدِكَ.
ثم أخذ بيد زين العابدين، وكان طفلاً، وقال له: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ص) يَأْمُرُكَ أَنْ تُوصِيَ بِالْإِمَامَةِ مِنْ بَعْدِكَ إِلَى وَلَدِكَ مُحَمَّدِ الْبَاقِرِ، وَاقْرَتْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ وَمِنِّي السَّلامَ[2].
3ـ ونص الإمام الحسين (ع) على إمامة ولده الإمام زين العابدين (ع)، وعهد إليه بالإمامة من بعده، فقد روى الزهري، قال: كنت عند الحسين بن علي إذ دخل علي بن الحسين الأصغر – يعني زين العابدين – فدعاه الحسين (ع) وضمه إليه ضماً، وقبّل ما بين عينيه، والتفت الزهري إلى الإمام الحسين (ع)، فقال له: يابن رسول الله، إن كان ما نعوذ بالله أن نراه فإلى من؟
فقال الحسين (ع): علي ابْنِي هَذَا هُوَ الْإِمَامُ أَبُو الْأَئِمَّةِ[3].
وروى مثل هذا الحديث عبد الله بن عتبة[4].
ويقول رواة الشيعة: إن الإمام الحسين (ع) لما أراد السفر إلى العراق استودع المواريث التي تسلمها من أخيه الحسن (ع) عند السيدة أم سلمة زوجة النبي (ص)، وأمرها أن تدفعها من بعده إلى زين العابدين (ع)، ولما رجع الإمام زين العابدين (ع) إلى يثرب بعد شهادة أبيه سلمته أم سلمة الوديعة التي عندها[5].
وهي من أمارات الإمامة وولائها، وكثير من أمثال هذه النصوص قد دونتها كتب الشيعة القدامى، ولو لم تك هذه النصوص لكانت مثله العليا، وصفاته الرفيعة تدلل على إمامته.
الإمامة في عصر الإمام زين العابدين
أما الإمامة في إطارها الفكري حسب العقيدة الشيعية فإنها لم تتبلور في عصر الإمام زين العابدين (ع)، فلم يك يفهمها أو يدين بها إلا أقل القليل من خواص الشيعة من الذين صهرت نفوسهم تعاليم الإسلام وقيمه.
يقول الحسين بن عبد الوهاب: وصارت الإمامة – في عصر الإمام (ع) – مكتومة مستورة، إلا ممن اتبعه من المؤمنين[6].
لقد أحاطت بالإمام (ع) مجموعة من العوامل الرهيبة لم تدعه يتمكن من إظهار المعطيات الضخمة للإمامة، وبيان الحق أصولاً وفروعاً، إلا لطائفة قليلة من خواصه وشيعته[7].
وذكر الكشي في ترجمة سعيد بن المسيب أن الفضل بن شاذان، قال: لم يكن في زمان علي بن الحسين (ع) في أول أمره إلا خمسة أنفس: سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، ومحمد بن جبير بن مطعم، ويحيى بن أم الطويل، وأبو خالد الكابلي، فهؤلاء كانوا يعرفون الإمامة ويدينون بها دون غيرهم[8].
لقد اعتزل الإمام زين العابدين (ع) عن الناس فترة من الزمن، كما اعتزل جده الإمام أمير المؤمنين (ع) أيام الخلفاء، وصار جليس بيته، وقد ضرب الإمام زين العابدين (ع) لنفسه بيتاً من الشعر خارج المدينة[9] مشتغلاً بالعبادة ونشر العلم، وقد حقن بذلك دمه ودماء البقية الباقية من أهل البيت (ع) وأنقذهم من شر ذلك الحكم الأسود الذي امتحن به المسلمون امتحاناً عسيراً.
وعلى أي حال، فإن المجتمع الإسلامي لم يع الأهداف المشرقة التي تنشدها الإمامة، كما لم يع الصفات الرفيعة التي يجب أن تتوفر في الإمام من العصمة ووفور العلم، والدراية التامة بما تحتاج إليه الأمة في مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويعود السبب في ذلك إلى اضطهاد الشيعة رسمياً، وتصفيتهم جسدياً، وزج الكثير منهم في ظلمات السجون، وحجبهم عن الإمام زين العابدين (ع)، وذلك من قبل الدولة الأموية العفنة التي ما تركت لوناً من ألوان الظلم والجور إلا صبّته على المسلمين.
إمامة محمد بن الحنفية
ووصف المؤرخون محمد بن الحنفية بأنه من رجال الدهر في العلم والزهد والعبادة والشجاعة، وهو من أفضل أولاد الإمام أمير المؤمنين (ع) بعد الإمامين الحسن والحسين (ع).
وكان ورعاً، واسع العلم، وقد مالت إليه القلوب[10]. وقد دانت بإمامته فرقة من المسلمين سميت بالكيسانية، وهي من أقدم الفرق الإسلامية، وقد منحوه لقب المهدي الذي بشر به النبي الأعظم (ص) وهو قائم آل محمد (ص) الذي أخبر عنه (ص) بأنه سيخرج في آخر الزمان فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.
وكان ممن دان بإمامته الشاعر الإسلامي الكبير السيد الحميري، وقد اعتقد ببقائه حياً، وأنه مقيم بجبل رضوى، وعنده عسل وماء، وقد نظم ذلك في هذه الأبيات الذائعة:
أَلا إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيش ** ولاة الحَقِّ أَرْبَعَةٌ سَواءُ
علي وَالثَّلاثَةُ مِنْ بَنِيهِ ** هُمُ الأَسْبَاطُ لَيْسَ بِهِمْ خَفَاءُ
فسبط[11] سِبْطُ إِيمَانٍ وَبِر ** وسبط[12] غَيَّبَتْهُ كَرِبَلاءُ
وَسِبْط[13] لا يَذوقُ المَوتَ حَتَّى ** يقود الْخَيلَ يَقْدِمُها اللواء
تَغَيَّبَ لَا يُرى فيهِمْ زَماناً ** بِرَضُوى عِندَهُ عَسَلٌ وَمَاءُ[14]
إلا أنه لما تبين له الحق رجع عن معتقده، ودان بإمامة الأئمة الطاهرين (ع)، وقد أعلن ولاءه للإمام الأعظم جعفر الصادق (ع) بقوله:
تَجَعْفَرتُ بِاسْمِ اللهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ** وَأَيْقَنْتُ أَنَّ اللَّهَ يَعْفُو وَيَغْفِرُ[15]
الإمام زين العابدين مع ابن الحنفية
ومن المؤكد أن محمد الحنفية ابن الإمام علي (ع) كان يدين بالإمامة للإمام زين العابدين (ع)، ولم يدع الإمامة لنفسه، وإنما ادعاها الناس له، وحاشا أن يدعي ما ليس له، فقد كان من أشد الناس ورعاً، ومن أكثرهم تحرجاً في الدين، وكان على بينة من أمر الإمامة في أنها ليست بيد أحد، وإنما أمرها إلى الله، فهو الذي يهبها لمن يشاء من عباده، وهو على يقين أن إمام عصره هو الإمام زين العابدين (ع).
ويقول الرواة: إنه جرى بينه وبين الإمام زين العابدين (ع) نزاع صوري حول الإمامة، فاتفقا على المضي إلى الكعبة ليتحاكما عند الحجر الأسود، وهو الذي يكون حاكماً بينهما، وإنما اتفقا على ذلك لبلورة الرأي العام، وإرجاع القائلين بإمامة محمد إلى الحق، وسافرا إلى مكة.
فلما انتهيا إليها توجها نحو البيت الحرام، واستقبل الإمام الحجر الأسود، ودعا بهذا الدعاء:
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الْمَكْتُوبِ فِي سُرَادِقِ الْمَجْدِ، وَأَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الْمَكْتُوبِ فِي سُرَادِقِ الْبَهَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ المَكْتُوبِ فِي سُرَادِقِ الْعَظَمَةِ، وَأَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ المَكْتُوبِ فِي سُرَادِقِ الْجَلَالِ، وَأَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الْمَكْتُوبِ في سُرَادِقِ الْعِزَّةِ، وَأَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الْمَكْتُوبِ فِي سُرَادِقِ الْقُدْرَةِ، وَأَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الْمَكْتُوبِ فِي سُرَادِقِ السَّرَائِرِ، السَّابِقِ الْفَائِقِ، الْحَسَنِ النَّضِيرِ، رَبِّ الْمَلائِكَةِ الثَّمَانِيَةِ وَرَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَبِالْعَيْنِ الَّتِي لَا تَنَامُ.
وَبِالْاِسْمِ الْأَكْبَرِ الْأَكْبَرِ الْأَكْبَرِ، وَبِالْاِسْمِ الْأَعْظَمِ الْأَعْظَمِ الْأَعْظَمِ، الْمُحِيطِ الْمُحِيطِ الْمُحِيطِ بِمَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَبِالْإِسْمِ الَّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ الشَّمْسُ، وَأَضَاءَ بِهِ الْقَمَرُ، وَسُجِّرَتْ بِهِ الْبِحَارُ، وَنُصِبَتْ بِهِ الْجِبَالُ، وَبِالْإِسْمِ الَّذِي قَامَ بِهِ الْعَرْشُ وَالْكُرْسِيُّ، وَبِأَسْمَائِكَ الْمُكَرَّمَاتِ، الْمُقَدَّسَاتِ، الْمَكْنُونَاتِ، الْمَخْزُونَاتِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَسْأَلُكَ بِذلِكَ كُلِّهِ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ…[16].
وأنطق الله الحجر الأسود من باب الإعجاز، كما أنطق عيسى بن مريم وهو في المهد صبياً بأن الإمام هو زين العابدين (ع)، وهو حجة الله على خلقه، وأمينه على دينه، واستبان بذلك الحق[17].
ورجع حشد من القائلين بإمامة محمد إلى الإمام زين العابدين (ع)، وقد نظم هذه الحادثة الشاعر الكبير السيد الحميري:
علِيَّ وَمَا كَانَ مِنْ عَمَّهِ ** بِرَدَّ الإمامَةِ عَطفَ العِنانِ
وَتَحْكِيمِهِ حَجَراً أَسْوَداً ** وما كانَ مِنْ نُطقِهِ المُستَبَانِ
بتسليم عم بغيرِ امْتِرَاء ** إِلَى ابْنِ أَخِ مَنْطِقَا بِاللِّسَانِ
شهدتُ بِذلِكَ صِدْقاً كما ** شَهِدتُ بتصديق أي القُرانِ
علِيٌّ إمامي لا أَمْتَرِي ** وَخَلَّيْتُ قَولِي بِكَانٍ وَكَانَ[18]
رجوع الكابلي إلى الحق
وكان أبو خالد الكابلي يدين بإمامة محمد بن الحنفية، إلا أنه رجع عن ذلك لما استبان له الحق، ودان بإمامة الإمام زين العابدين (ع)، والسبب في ذلك حسبما يقول الرواة: إنّه قال لمحمد بن الحنفية: جعلت فداك، إن لي حرمة ومودة وانقطاعاً، أسألك بحرمة رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) ألا أخبرتني أنت الإمام الذي فرض الله طاعته على خلقه؟
فأجابه محمد جواب المؤمن الذي لا يبغي إلا الحق قائلاً: يا أبا خالد، حلفتني بالعظيم، الإمام علي بن الحسين (ع)، عليّ وعليك، وعلى كل مسلم.
وأسرع أبو خالد نحو الإمام علي بن الحسين (ع) فاستأذن عليه، فأذن له، وقابله بحفاوة وتكريم قائلاً له: مَرْحَباً بِكَ يا كَنْكَرُ، ما كُنْتُ لَنَا بِزَائِرِ مَا بَدا لَكَ فينا؟
وانبرى أبو خالد بخضوع وإجلال قائلاً: الحمد لله الذي لم يمتني حتى عرفت إمامي.
وأسرع الإمام (ع) قائلاً: كَيْفَ عَرَفْتَ إِمَامَكَ؟
ـ إنك دعوتني باسمي الذي سمتني به أمي! وقد كنت في عمياء من أمري، ولقد خدمت محمد بن الحنفية دهراً من عمري لا أشك أنه الإمام حتى سألته بحرمة الله وحرمة الرسول وحرمة أمير المؤمنين، فأرشدني إليك، وقال: هو الإمام عليّ وعليك، وعلى الخلق كلهم[19].
ونظم السيد الحميري هذه الحادثة بقوله:
عجبتُ لِكَرْ صُروف الزمان ** وَأَمر أَبي خالد ذي البيان
وَمِنْ رَدَّهِ الأَمرَ لا يَنْثَنِي ** إِلَى الطَّيِّبِ الظُّهْرِ نُورِ الْجِنانِ[20]
من دلائل إمامة الإمام زين العابدين
وكان من دلائل إمامة الإمام زين العابدين (ع) إخباره بوقوع بعض الأحداث في المستقبل، وقد تحققت بعد عشرات السنين كما أخبر عنها، وتعتبر هذه الظاهرة عند الشيعة الإمامية من دلائل الإمامة، فإنّ الإخبار عن المغيبات من مكنونات علم الله تعالى، ولا يمنحها إلا لأنبيائه وأوصيائهم.
ومما يدلل على ذلك أن الإمام علي (ع) أخبر عن كثير من الملاحم، وقد تحققت كلها على مسرح الحياة، فقد أخبر عن مصارع أهل النهروان، ومصرع ذي الثدية، وأخبر عن زوال دولة بني أمية، وأخبر عن كثير من الأحداث ما لو جمعت لكانت كتاباً، وقد تحقق كل ما أخبر عنه، وهو القائل لأصحابه: سلوني قَبْلَ أَنْ تَفْقِدوني، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ السَّاعَةِ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ.
وقال مرة لأصحابه: لَوْ شِئْتُ لَأَخْبَرْتُكُمْ بِمَا يَأْتِي وَيَكُونُ مِنْ حَوادِثِ دَهْرِكُمْ، وَنَوائِبِ زَمَانِكُمْ، وَبَلَاءِ أَيَّامِكُمْ، وَغَمَرَاتِ سَاعَاتِكُمْ.
وعلّق الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود على ذلك بقوله: ولم يكن – أي الإمام – يرجم بظن، ولا يستقرئ النجوم، ولا يلتجئ للكهانة، وهو يرى بعينه إلى ما وراء المعلوم المنظور ليأتيهم بشذرة من المجهول المستور.
إنما كان ينطق عن حق لا شبهة فيه لأنه كان عندئذ يطلعهم على بعض علم محمد (ص) الذي اختصه به من دون الناس.
إن الله تعالى قد منح أئمة أهل البيت (ع) طاقات مشرقة من العلوم، وخصهم بمكنونات غيبه للتدليل على إمامتهم وقيادتهم الروحية والزمنية لهذه الأمة، وممن خصه الله بهذه الفضيلة الإمام زين العابدين (ع)، فقد أخبر عن كثير من الملاحم التي تحققت بعده، وكان من بينها:
1- إخباره (ع) عن شهادة زيد
من الملاحم التي أخبر عنها الإمام زين العابدين (ع) أنه أخبر عن شهادة ولده الشهيد العظيم زيد، فقد روى أبو حمزة الثمالي، قال: كنت أزور علي بن الحسين في كل سنة مرة وقت الحج، فأتيته سنة، وكان على فخذه صبي فقام عنه، واصطدم بعتبة الباب، فخرج منه دم، فوثب إليه الإمام (ع) وجعل ينشف دمه، وهو يقول له: إِنِّي أُعيذُكَ بِاللَّهِ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلُوبَ بِالْكُنَاسَةِ.
وبادر أبو حمزة قائلاً: بأبي أنت وأمي، أي كناسة؟
ـ كُناسَةُ الْكُوفَةِ.
ـ جعلت فداك، أيكون ذلك؟
ـ إِي وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالْحَقِّ إِنْ عِشْتَ بَعْدِي لَتَرَيَنَّ هَذَا الْغُلَامَ فِي نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ مَقْتولاً، مَدفوناً، مَنْبوشاً، مَصْلوباً بِالْكُنَاسَةِ، ثُمَّ يَنْزَلُ فَيُحْرَقُ وَيُدَقُ وَيُذَرَى في الْبَرِّ.
ويهر أبو حمزة وراح يسأل عن اسم هذا الغلام قائلاً: جعلت فداك، ما اسم هذا الغلام؟
ـ زَيْدٌ[21].
وتحقق كل ما أخبر به الإمام (ع)، فلم تمض حفنة من السنين حتى ثار زيد الشهيد الذي هو من ألمع الثائرين الأحرار، فقد ثار في وجه الطغيان الأموي مطالباً بتحقيق العدالة الإسلامية، وتحقيق حقوق الإنسان، فأجهزت عليه القوى الظالمة فأردته قتيلاً.
و انبرى بعض أصحابه فدفنه، إلا أن الحكومة الأموية أخرجته من قبره، وصلبته في كناسة الكوفة، وبقي أربع سنين مصلوباً على جذع وهو ينير للناس طريق الحرية والشرف والكرامة، ثم أنزلوه بعد ذلك وأحرقوه، وذروا قسماً من رماده في ماء الفرات ليشربه الناس حسبما يقوله الأمويون.
لقد تحقق جميع ما أخبر به الإمام زين العابدين (ع) في شأن ولده العظيم، ومن المؤكد أن ذلك من علائم الإمامة ودلائلها.
2- إخباره (ع) عن حكومة عمر بن عبد العزيز
من الملاحم التي أخبر عنها الإمام زين العابدين (ع) أنه أخبر عن عمر بن عبد العزيز، وأنه سيلي أمور المسلمين، ولا يلبث إلا يسيراً حتى يموت[22]، وتحقق ذلك، فقد ولي عمر الخلافة وبقي زمناً يسيراً ووافاه الأجل المحتوم.
3- إخباره (ع) عن حكومة العباسيين
وأخبر الإمام زين العابدين (ع) عن حكومة العباسيين، وقد استشف من وراء الغيب أن حكمهم يقوم على الظلم والجور وعلى الفسق والفساد، وسيخرجون المسلمين عن دينهم، وستثور عليهم كوكبة من العلويين مطالبين بتحقيق العدل والحق بين الناس، وأنهم سينالون الشهادة على أيدي أولئك الطغاة، وهذا نص حديثه:
روى الإمام أبو جعفر الباقر، عن أبيه زين العابدين (ع)، أنه قال: أَما إِنَّ في صُلْبِهِ – أي صلب ابن عباس – وَدِيعَةُ ذُرِّيَّةٍ لِنَارِ جَهَنَّمَ، وَسَيُخْرَجُونَ أَقواماً مِنْ دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً، وَسَتُصْبَغُ الْأَرْضُ مِنْ فراخ آلِ مُحَمَّدٍ تَنْهَضُ تِلْكَ الْفِراخُ فِي غَيْرِ وَقْتٍ، وَتَطْلُبُ غَيْرَ مُدْرَكٍ، وَيُرابِطُ الَّذِينَ آمَنوا، وَيَصْبِرُونَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ[23].
لقد ثارت كوكبة من العلويين المجاهدين على طغاة بني العباس، فقد رفع علم الثورة محمد وإبراهيم على المنصور الدوانيقي الذي هو أعنى ملك في تاريخ هذا الشرق، وكذلك ثار الحسين بن علي صاحب واقعة فخ على الهادي العباسي، وثار غير هؤلاء من أبناء الرسول (ص) وقد رفعوا راية الحرية والكرامة مطالبين بحقوق المظلومين والمضطهدين، وقد سقوا بدمائهم الزكية شجرة الإسلام التي جهد العباسيون الأقزام على قلعها.
هذه بعض الملاحم التي أخبر الإمام زين العابدين (ع) عن وقوعها، وقد تحققت كما أخبر (ع).
لقد منح الله الإمام زين العابدين (ع) العلم الذي لا يحد كما وهب آباءه، وكان (ع) يكتم علومه ولا يذيعها بين الناس لئلا يفتتن به الجهال، وقد أعلن ذلك بقوله:
إِنِّي لَأَكْتُمُ مِنْ عِلْمِي جَواهِرَهُ ** كَيْلا يَرَى الْحَقَّ ذُو جَهْلٍ فَيَفْتَتِنا
يا رُبَّ جَوهَرِ عِلْمٍ لَوْ أَبوحُ بِهِ ** لَقِيلَ لِي أَنْتَ مِمَّنْ يَعبُدُ الوَثَنا
وَلَا سْتَحَلَّ رِجَالٌ مُسْلِمُونَ دَمي ** يَرُونَ أَقْبَحَ مَا يَأْتُونَهُ حَسَنا
وَقَدْ تَقَدَّمَ في هذا أَبو حَسَنٍ ** إِلَى الْحُسَيْنِ وَأَوْصَى قَبْلَهُ الْحَسَنَا[24]
الاستنتاج
أن هناك نصوصا متواترة على إمامة الإمام زين العابدين (ع)، وردت عن رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) والإمام الحسين (ع)، وأن الإمامة في عصره لم يك يفهمها أو يدين بها إلا القليل من خواصه، ومن دلائل إمامته (ع) إخباره بوقوع بعض الأحداث في المستقبل، والتي لا يمنحها الله تعالى إلا لأنبيائه وأوصيائهم، كإخباره (ع) عن شهادة زيد، وحكومة عمر بن عبد العزيز، وحكومة العباسيين.
الهوامش
[1] الخزّاز، كفاية الأثر، ص311.
[2] الكليني، الكافي، ج1، ص297، باب النص على إمامة الحسن (ع)، ح1.
[3] المجلسي، بحار الأنوار، ج46، ص19، رقم 8.
[4] الحر العاملي، إثبات الهداة، ج5، ص214.
[5] الكليني، الكافي، ج1، ص304، باب النص على إمامة علي بن الحسين (ع)، ح3.
[6] عبد الوهّاب، عيون المعجزات، ص70.
[7] الخونساري، روضات الجنات، ج4، ص44.
[8] الطوسي، رجال الكشي، ص115، رقم 184.
[9] ابن طاووس، فرحة الغري، ص٣٣.
[10] الإصفهاني، حلية الأولياء، ج3، ص١٧٤.
[11] أراد بالسبط الإمام الزكي الحسن (ع)، ريحانة رسول الله (ص).
[12] أراد بالسبط الإمام الحسين أبا الأحرار وسيد الشهداء (ع).
[13] أراد به محمد بن الحنفية.
[14] الإصفهاني، الأغاني، ج٧، ص٢٤٥.
[15] الإصفهاني، الأغاني، ج٧، ص٢٣٥.
[16] ابن طاووس، مهج الدعوات، ص197.
[17] المسعودي، إثبات الوصية، ص١١٩.
[18] الأميني، الغدير، ج٢، ص٢٤٨.
[19] الطوسي، رجال الكشي، ص121، رقم 192.
[20] الأميني، الغدير، ج٢، ص٢٤٨.
[21] الثقفي، الغارات، ج2، ص861.
[22] الطبري، دلائل الإمامة، ص88.
[23] الحر العاملي، إثبات الهداة، ج٥، ص٢٤١.
[24] الألوسي، روح المعاني، ج6، ص190.
مصادر البحث
1ـ ابن طاووس، عبد الكريم، فرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين علي (ع)، تحقيق تحسين آل بيب الموسوي، قم، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، الطبعة الأُولى، 1419 ه.
2ـ ابن طاووس، علي، مهج الدعوات ومنهج العبادات، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الثانية، 1424 ه.
3ـ الإصفهاني، أبو الفرج، الأغاني، بيروت، دار إحياء التراث العربي، بلا تاريخ.
4ـ الإصفهاني، أبو نعيم، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، القاهرة، دار أُمّ القرى، الطبعة الأُولى.
5ـ الآلوسي، محمود، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم و السبع المثاني، تحقيق علي عبد الباري عطية، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415 ه.
6ـ الأميني، عبد الحسين، الغدير، بيروت، دار الكتاب العربي، الطبعة الرابعة، 1397 ه.
7ـ الثقفي، إبراهيم، الغارات، تحقيق عبد الزهراء الحسيني، قم، دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1410 ه.
8ـ الحر العاملي، محمّد، إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأُولى، 1425 ه.
9ـ الخزّاز، علي، كفاية الأثر في النص على الأئمّة الاثني عشر، تحقيق عبد اللطيف الحسيني، قم، انتشارات بيدار، طبعة 1401 ه.
10ـ الخونساري، محمّد باقر، روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، تحقيق أسد الله إسماعيليان، قم، انتشارات إسماعيليان، الطبعة الأُولى، 1390 ه.
11ـ الطبري، دلائل الإمامة، محمّد، قم، مؤسّسة البعثة، الطبعة الأُولى، 1413 ه.
12ـ الطوسي، محمّد، اختيار معرفة الرجال، المعروف برجال الكشي، تحقيق مهدي الرجائي، قم، مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، طبعة 1404 ه.
13ـ عبد الوهّاب، حسين، عيون المعجزات، النجف، منشورات المطبعة الحيدرية، طبعة 1369 ه.
14ـ الكليني، محمّد، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.
15ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه.
16ـ المسعودي، علي، إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب، قم، انتشارات انصاريان، الطبعة الأُولى، 1417 ه.
مصدر المقالة (مع تصرف)
القرشي، باقر، موسوعة سيرة أهل البيت (ع)، تحقيق مهدي باقر القرشي، النجف، دار المعروف، الطبعة الثانية، 1433 ه، ج15، ص119 ـ ص130.