إن صلاة الجمعة من العبادات المهمة في الدين الإسلامي، وتحظى بمكانة خاصة عند المسلمين، حيث يُنظر إليها على أنها تجمع المسلمين لأداء صلاة جماعية تجمع بين الروح والجسد وتقوى الروابط الاجتماعية. ومن وجهة نظر المعصومين (ع) فإن للمشاركة فيها ثوابًا كبيرًا وأجرًا عظيمًا، يتجلى في تعزيز الروح الإيمانية، وتقوية الصلة بالله، وإظهار الوحدة والتآلف بين المؤمنين.
أهمية صلاة الجمعة
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاۡ إِذَا نُودِیَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاۡ إِلَیٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَ ذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَ ۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٌ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ﴿*﴾ فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَ ٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَ ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ﴿*﴾ وَإِذَا رَأَوۡاۡ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاۡ إِلَيۡهَا وَ تَرَكُوكَ قَآئِمًا ۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٌ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَ مِنَ ٱلتِّجَٰرَةِ ۚ وَ ٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ}.[1]
عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع) قَالَ: قُلْتُ لَهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَ “فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ“ قَالَ: {اعْمَلُوا وَعَجِّلُوا فَإِنَّهُ يَوْمٌ مُضَيَّقٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِيهِ وَثَوَابُ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ عَلَى قَدْرِ مَا ضُيِّقَ عَلَيْهِمْ وَالْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ تُضَاعَفُ فِيهِ قَالَ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع): وَاللَّهِ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ (ص) كَانُوا يَتَجَهَّزُونَ لِلْجُمُعَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِأَنَّهُ يَوْمٌ مُضَيَّقٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ}.[2]
عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) قَالَ: {مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلاَثاً مُتَتَابِعَةً لِغَيْرِ عِلَّةٍ كُتِبَ مُنَافِقاً}. وَقَالَ (ع): {تُؤْتَى الْجُمُعَةُ وَ لَوْ حَبْواً}. وعَنِ اِبْنِ بُكَيْرٍ قَالَ: قَالَ اَلصَّادِقُ (ع): {مَا مِنْ قَدَمٍ سَعَتْ إِلَى الْجُمُعَةِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ جَسَدَهَا عَلَى اَلنَّارِ}.[3]
وتحتلّ صلاة الجمعة موضع صلاة الظهر… وقد ميّز الله سبحانه وتعالى صلاة الجمعة عن سائر الصلوات اليومية، بأن أوجب أداءها ضمن صلاة جماعة، وأمر بتوحيدها في كلّ منطقة، ولم يسمح بالتأخّر عن حضورها إذا اقيمت إلاّ لأعذار خاصّة. وبذلك كانت صلاة الجمعة تعبّر عن اجتماع اسبوعيّ موسّع لعامّة المصلّين والمؤمنين، يبدأ بالموعظة والتثقيف ضمن خطبتي صلاة الجمعة، وينتهي بالعبادة والتوجّه إلى الله ضمن الصلاة نفسها. وصورتها ركعتان، كصلاة الصبح تماماً، إلاّ أنّ المصلّي ينوي بها أنّه يصلّي صلاة الجمعة قربةً إلى الله تعالى. وتتميّز عن صلاة الصبح بأنّ من المستحبّ فيها قنوتين: أحدهما قبل الركوع من الركعة الاُولى، والآخر بعد الركوع من الركعة الثانية.[4]
صلاة الجمعة في زمان المعصومين (ع)
إنّ صلاة الجمعة كانت واجبة في زمان حياة النبيّ (ص) على جميع المسلمين، بمعنى أنّ حضورها كان واجباً عليهم عدا ما استُثني في الروايات – كالمسافر والنساء والمريض والعبيد و… – وأمّا عقد صلاة الجمعة وإقامتها فقد كان بسبب النبيّ (ص) ونوّابه، فكان (ص) يقيم الجمعة في المدينة، وكان يبعث في أطراف البلاد الإسلاميّة من الحكّام من يقيمها.
والناس كانوا مأمورين بالسعي إليها وحضورها عند النداء لها، بحيث لم يجز لهم الاشتغال بالبيع والشراء وقت نداء المنادي لها، وكان الأمر على هذا المنوال إلى أن تُوفّي رسول اللّٰه (ص) وبعد وفاته (ص) كان الخلفاء يقيمون صلاة الجمعة على ذلك النحو. وكان مُقيم صلاة الجمعة هو السلطان وحكّامه ونوّابه، وكان الناس يحضرون الصلاة عند النداء (الأذان). فكان الناس يتركون الاشتغال بهما، ويحضرون الصلاة، وكان الأمر على هذا المنوال إلى زمان عثمان؛ فلمّا صار عثمان خليفة جعل لإعلام الناس أذانين:
الأوّل: زمان خروجه من منزله. والثاني: بعد حضوره في المسجد، وهذا هو الأذان الثاني الّذي يقال له: الأذان الثالث ببعض الاعتبارات، وكان من مبتدعات عثمان، وهو بدعة عندنا، ولمّا صار محصوراً في الدار توجّه الناس إلى أميرالمؤمنين (ع)، وكان (ع) عظيماً عندهم، فالتمسوا منه (ع) إقامة الصلاة فأقام (ع) صلاة الجمعة، وكان الناس يحضرونها.
والحاصل: أنّ سيرة النبيّ (ص) والخلفاء بعده – حقّاً كانت خلافتهم أم باطلة – كانت جارية على ذلك، وكان عقد صلاة الجمعة بيد السلطان ومن كانوا ينصبونه لذلك، بحيث لم تكن إقامتها لغيرهم.
وهذه السيرة قد جرت على ذلك المنوال بعد زمان الخلفاء في كلّ زمان، وكلّ مسلم كان عالماً من أوّل زمان بلوغه وتمييزه بأنّ في الإسلام صلاة واجبة يوم الجمعة ومقيمها يكون هو السلطان ونوّابه الّذين كان ينصبهم لإمامة الصلاة في البلاد الإسلامية، ويكون على الناس الحضور لها. هذه حال سيرة المسلمين من الصدر الأوّل.
إذا عرفت هذه المقدّمة فاجعلها في ذكرك عند الرجوع إلى أخبار الباب، فإنّ ما ذكرنا من السيرة المستمرّة تكون قرينة متّصلة بالأخبار الصادرة عن الأئمّة (ع)، واجعل نفسك عند المرور على تلك الأخبار كأنّك كنت ذلك في الزمان وفي ذلك المحيط، ثمّ تأمّل في الروايات حتّى تظهر لك حقيقة الأمر. فلنذكر الروايات الّتي ادّعوا دلالتها، ونبيّن عدم دلالتها على مطلوبهم.
أمّا الأوّل: فهو ما رواه الصدوق رحمه الله مرسلاً قال: قال رسول اللّٰه (ص): «من أتى الجمعة إيماناً واحتساباً استأنف العمل».
والثاني: هو ما رواه عن عبداللّٰه بن بكير قال: قال الصادق (ع): «ما من قدم سعت إلى الجمعة إلّاحرّم اللّٰه جسدها على النّار».
والثالث: ما رواه عن النبي (ص) قال: جاء نفر من اليهود إلى رسولاللّٰه (ص) فسألوه عن سبع خصال، فقال: «أمّا يوم الجمعة فيوم يجمع اللّٰه فيه الأوّلين والآخرين، فما من مؤمن مشىٰ فيه إلى الجمعة إلّاخفّف اللّٰه عليه أهوال يوم القيامة، ثمّ يؤمر به إلى الجنّة».
والرابع: ما رواه عن السكوني عن أبي عبداللّٰه عن آبائه (ع) قال: قال رسول اللّٰه (ع): «من أتى الجمعة إيماناً واحتساباً استأنف العمل».
والخامس: ما رواه الشيخ بإسناده عن أبي عبداللّٰه عن أبيه عن جدّه (ع) قال: «جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يقال له: قليب، فقال: يا رسولاللّٰه! إنّى تهيّأت إلى الحجّ كذا وكذا مرّة فما قُدّر لي، فقال لي: يا قليب! عليك بالجمعة فإنّها حجّ المساكين».
السادس: ما رواه الشيخ بإسناده عن وهب عن جعفر (ع) أنّ عليّاً (ع) كان يقول: «لأن أدع شهود حضور الأضحى عشر مرّات أحبّ إليّ من أن أدع شهود حضور الجمعة مرّة واحدة من غير علّة».
وهذه الروايات – كما ترى – لا دلالة لها على وجوب صلاة الجمعة لاجتماعها مع الاستحباب أيضاً.
عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: «إنمّا فرض اللّٰه عزّوجلّ على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة واحدة فرضها اللّٰه عزّ وجلّ في جماعة وهي الجمعة، ووضعها عن تسعة: عن الصغير، والكبير، والمجنون، والمسافر، والعبد، والمرأة، والمريض، والأعمى، ومن كان على رأس فرسخين».
عن الصدوق – رحمه الله – قال: وخطب أمير المؤمنين (ع) في الجمعة فقال: «الحمدللّٰه الوليّ الحميد – إلى أن قال – والجمعة واجبة على كلّ مؤمن إلّاعلى الصبيّ، والمريض، والمجنون، والشيخ الكبير، والأعمى، والمسافر، والمرأة، والعبد المملوك، ومن كان على رأس فرسخين». وروى الكليني – رحمه الله – بإسناده عن أبي بصير ومحمّد بن مسلم جميعاً عن أبي عبداللّٰه (ع) قال: «إنّ اللّٰه عزّوجلّ فرض في كلّ سبعة أيّام خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة واجبة على كلّ مسلم أن يشهدها إلّاخمسة: المريض، والمملوك، والمسافر، والمرأة، والصبيّ»[5].
صلاة الجمعة فى عصر الغيبة بین الوجوب والتخيير
اعلم أنّ الأصحاب رحمهم اللّه اختلفوا فى حكم الجمعة فى زمان الغيبة؛ فقال بعضهم بالوجوب التّخييرى بينها و بين الظّهر؛ وصرّح بعضهم بكونها أفضل الفردين وأطلق بعضهم؛ ولم يظهر من واحد من القائلين بالتّخيير الحكم بأفضلية الظهر أو التساوى؛ وهذا قول مشهور بين الفقهاء الّذين بعد الشيخ رحمه اللّه؛ وكلام الشيخ فى المصباح صريح بالتّخيير وظاهر الجمل هو الحرمة؛ وفهّمها بعضهم من عبارة الخلاف أيضا وهو توهّم محض، ولا يبعد كون مذهبه فيه هو الوجوب كما سيظهر إن شاء اللّه تعالى.
ومذهبه فى بعض آخر من كتبه المشهورة إمّا الوجوب العينى أو التّخييرى؛ وقال سلاّر وابن ادريس والعلاّمة – رحمه اللّه – فى المنتهى وكتاب الأمر بالمعروف من التحرير بالحرمة؛ وتوقّف فى كتاب الصّلاة من التحرير وقال فى سائر كتبه المشهورة بالتّخييرى؛ وتوقّف فى المختلف الذي نقل الشّهيد الثانى – رحمه اللّه – أنّه آخر تصنيفاته، فيحتمل كلامه فيه الوجوب؛ ونسب هذا القول الى ظاهر السّيد الجليل المرتضى – طاب ثراه – واختار الشهيد – طاب ثراه – فى البيان التخيير وكلامه فى باقى التّصانيف يحتمل الوجوب.
قال بعضهم بالوجوب العينى مثل الشّيخ المفيد – طاب ثراه – فى المقنعة و الإشراف و هما موجودان و أبى الصّلاح و أبى الفتح الكراجكى – على ما نقل المعتمدون – فى كتابهما، و الشهيد الثانى فى الرّسالة و ان كان قوله فى التّصانيف المشهورة غير الرسالة هو الوجوب التخييري؛ و قال بالوجوب العينى صاحب المدارك رحمه اللّه و الشّيخ حسين بن عبد الصّمد و غيرهم من المتأخرين الّذين تأخّروا عن الشّهيد الثانى الّذين لا حاجة الى تعدادهم.
و بالجملة فى المسألة اختلاف بين الأقوال الثلاثة المذكورة ولا يجرى فيها بالاحتياط فيجب الاهتمام فيها حتى يظهر الحق ويبنى العمل على ما دلّ عليه الدّليل وهذا القول هو المعتمد.[6]
وتجب إقامة صلاة الجمعة وجوباً حتمياً في حالة وجود سلطان عادل متمثّلا في الإمام، أو فيمن يمثّله. ويراد بالسلطان العادل: الشخص أو الأشخاص الذين يمارسون السلطة فعلا بصورة مشروعة، ويقيمون العدل بين الرعية. وهذا الحكم الأول لصلاة الجمعة يعبّر عنه ب – «الوجوب التعييني لإقامة صلاة الجمعة».
وأمّا في حالة عدم توفّر السلطان العادل فصلاة الجمعة واجبة أيضاً، ولكنّها تجب على وجه التخيير ابتداءً، وتجب على وجه الحتم انتهاءً; وذلك أنّ المكلّفين في هذه الحالة يجب عليهم أن يؤدّوا الفريضة في ظهر يوم الجمعة: إمّا بإقامة صلاة الجمعة جماعةً على نحو تتوفّر فيها الشروط السابقة، وإمّا بالإتيان بصلاة الظهر. وأيّهما أتى به المكلّف أجزأه وكفاه، غير أنّ إقامة صلاة الجمعة أفضل وأكثر ثواباً، وهذا هو الحكم الثاني لصلاة الجمعة، ويعبَّر عنه ب – «الوجوب التخييريّ لإقامة صلاة الجمعة».[7]
صلاة الجمعة في زمن غيبة الإمام المنتظر (عج) واجب تخييري، أي أنّه يجوز للمكلّف أن يأتي بصلاة الجمعة بدلاً من صلاة الظهر من يوم الجمعة، و لكن عند تأسيس الحكومة الإسلاميّة أصبح الأحوط أداء صلاة الجمعة. وإذا جاء بصلاة الجمعة فلا تجب عليه صلاة الظهر.[8]
النتيجة
تُظهر وجهة نظر المعصومين (ع) أن المشاركة في صلاة الجمعة لها ثواب عظيم وأجر كبير، حيث يُعدُّ ذلك من الأعمال التي تُقرب العبد إلى الله وتزيد من حسناته. ويؤكد المعصومون (ع) أن هذه الفريضة تساهم في تقوية الإيمان، وتعزيز الوحدة بين المسلمين، وتأصيل روح الجماعة والتعاون. كما أن حضور صلاة الجمعة يجسد الالتزام والطاعة، ويُعد من أسباب مغفرة الذنوب وزيادة الرزق، مما يجعلها فرصة روحانية عظيمة للمؤمنين للارتقاء بمستواهم الروحي والديني.
الهوامش
[1] – الجمعة: 9-11.
[2] – الكلينى، الكافي، ج3، ص415.
[3] – المجلسی، بحار الأنوار، ج86، ص 183.
[4] – الصدر، موسوعة الشهید السید محمد باقر الصدر، ج16، ص 393.
[5] – البروجردی، الرسائل الفقهیة، ج1، ص59 – 65.
[6] – جعفریان رسول، دوازده رساله فقهی درباره نماز جمعه، ص453 – 454.
[4] – الصدر، موسوعة الشهید السید محمد باقر الصدر، ج16، ص 396.
[8] – مکارم الشیرازي، الفتاوى الجدیدة، ج2، ص 93.
المصادر
- القرآن الكريم
- البروجردي، حسین، الرسائل الفقهیة، طبا، 1394 ش هـ.
- جعفریان رسول، دوازده رساله فقهی درباره نماز جمعه از روزگار صفوی (رسالة في صلاة الجمعة)، انصاريان، 1381 ش هـ.
- الصدر محمد باقر، موسوعة الشهید السید محمد باقر الصدر، پژوهشگاه علمی تخصصی شهید صدر، دار الصدر، 1434 ق هـ.
- الكلينى، محمد بن يعقوب، الكافي (ط – الإسلامية) – تهران، الطبعة الرابعة، 1407 ق.
- المجلسي، محمدباقر بن محمد تقی، بحار الأنوار، دار إحياء التراث العربي، 1403 ق هـ.
- مکارم الشیرازی ناصر، الفتاوي الجدیدة، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (علیه السلام)، 1385 ش هـ.