تُعد سيرة الإمام زين العابدين (ع) امتدادا نقيا لسيرة آبائه الطاهرين، حيث كانت منارةً للإشعاع والهداية بين الناس، لقد كان الإمام (ع) يتحرى في حياته النهج القويم الذي سار عليه جده الإمام أمير المؤمنين (ع)، مستلهما من سيرته العظيمة وهديه الرشيد.

سيرته (ع) مع مماليكه

سار الإمام زين العابدين (ع) مع مماليكه سيرة تتسم بالرفق والعطف والحنان، فكان يعاملهم كأبنائه، ويغدق عليهم بره ومعروفه وإحسانه، وقد وجدوا في كنفه من الرفق ما لم يجدوا في ظل آبائهم، ويقول الرواة: إنّه لم يعاقب أمة ولا عبداً فيما إذا اقترفا دنباً[1].

وقد كان له مملوك فدعاه مرتين فلم يجبه، وفي الثالثة قال له الإمام زين العابدين (ع) برفق ولطف: يَا بُنَيَّ، أَمَا سَمِعْتَ صَوْتِي؟

بلی.

لِمَ لَمْ تُجِبْني؟

أمنت منك.

فخرج الإمام زين العابدين (ع) وراح يحمد الله ويقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ مَمْلُوكِي يَأْ مَنْنِي؟[2].

لقد فرح الإمام زين العابدين (ع) لأنه لم يكن قاسياً ولا جباراً، حتى يخاف منه الناس أو يحذرون.

سيرته (ع) مع جيرانه

وكان الإمام زين العابدين (ع) من أبر الناس بجيرانه، فكان يرعاهم كما يرعى أهله، وكان يعول ضعفاءهم وفقراءهم، ويعود مرضاهم، ويشيع موتاهم، ولم يترك لوناً من ألوان البر إلا أسداه إليهم، وكان يستقى لضعفاء جيرانه في غلس الليل البهيم، وليس في تاريخ الإنسانية مثل هذا اللون من البر والمعروف.

ولم يكتف الإمام زين العابدين (ع) بما أسداه على جيرانه من أنواع البر والإحسان، وإنما شملهم بدعائه، فكان يدعو لهم بالتوفيق والحسنى والسداد، كما كان يدعو لنفسه وأهل بيته، وكانوا من مهامه، وقد خصهم بدعاء من أدعيته الشريفة، وفيما يلي نصه:

اللَّهُمَّ صَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَتَوَلَّنِي فِي جِيرَانِي وَمَوَالِيَّ الْعَارِفِينَ بِحَقِّنَا، وَالْمُنابِذِينَ لأَعْدَائِنَا بِأَفْضَلِ وَلا يَتِكَ، وَوَفِّقْهُمْ لِإِقَامَةِ سُنَّتِكَ، وَالْأَخْذِ بِمَحاسِنِ أَدَبِكَ فِي إِزْفاقِ ضَعِيفِهِمْ، وَسَدَّ خَلَّتِهِمْ، وَعِيادَةِ مَرِيضِهِمْ، وَهِدَايَةِ مُسْتَرْشِدِهِمْ، وَمُناصَحَةِ مُسْتَشِيرِهِمْ، وَتَعَهُدِ قَادِمِهِمْ، وَكِثْمَانِ أَسْرَارِهِمْ، وَسَتْرِ عَوْرَاتِهِمْ، وَنُصْرَةِ مَظْلُومِهِمْ، وَحُسْنِ مُواسَاتِهِمْ بِالْمَاعُونِ، وَالْعَوْدِ عَلَيْهِمْ بِالْجِدَةِ وَالْإِفْضالِ، وَإِعْطَاءِ مَا يَجِبُ لَهُمْ قَبْلَ السؤال.

لقد دعا الإمام زين العابدين (ع) بهذه الدعوات المباركة لجيرانه، وخص دعاءه بالعارفين والمؤمنين بحق أهل البيت (ع) الذين ألزم الله مودتهم، وجعلهم النبي (ص) سفن النجاة، وأمن العباد، والأدلاء على مرضاة الله وطاعته، وكان من بنود هذا الدعاء:

1- أن يوفقهم الله لإقامة سنة الإسلام، وإحياء فروضه وتعاليمه.

2- أن يوفقهم الله ويهديهم للأخذ بمحاسن آداب الله، وهي:

3ـ أن يرفقوا بضعفائهم ويعطفوا عليهم.

4ـ أن يقوموا بسد حاجات جيرانهم، ويعينوهم على شؤون هذه الدنيا.

5ـ أن يعود كل فرد منهم مرض عند إخوانه في الله.

6ـ أن يهدوا من يطلب الهداية والرشاد.

7ـ أن يقدموا الرأي الصائب، والنصيحة الكاملة لمن يستشيرهم.

8ـ أن يتعاهدوا من يقدم من إخوانهم من السفر.

9ـ إذا أسر بعضهم في سره لأخيه فعليه أن يكتمه ولا يذيعه في الناس.

10ـ أن يستر بعضهم عورة بعض ولا يبديها؛ لأنّ في نشرها هتكاً له وإسقاطاً لكرامته.

11- أن يقوموا بنصرة المظلوم منهم، ولا يدعوه وحده لأن في ذلك نشراً للظلم وإماتة للعدل.

12ـ أن يواسي بعضهم بعضاً في الحياة الاقتصادية، فلا يتركوا الضعفاء والفقراء ينهشهم الفقر والبؤس.

13ـ أن يسعفوا فقراءهم بالمال قبل السؤال لأن فيه مذلة على الفقير.

وهذه البنود من أهم المواد في النظام الاجتماعي في الإسلام الذي يهدف إلى جمع الناس على صعيد المحبة والمودة والألفة، ويقضي على جميع النعرات والفوارق التي توجب فساد الحياة الاجتماعية.

ولنستمع إلى بقية الدعاء الشريف:

واجْعَلْنِي اللَّهُمَّ أَجْزِي بِالْإِحْسَانِ مُسِينَهُمْ، وَأُعْرِضُ بِالتَّجاوُزِ عَنْ ظالِمِهِمْ، وَأَسْتَعْمِلُ حُسْنَ الظَّنِّ في كافَّتِهِمْ، وَأَتَوَلَّىٰ بِالْبِرِّ عَامَّتَهُمْ وَأَغْضُ بَصَرِي عَنْهُمْ عِفَّةً، وَأُلِينُ جَانِبِي لَهُمْ تَواضُعاً، وَأَرِقُ عَلَى أَهْلِ الْبَلاءِ مِنْهُمْ رَحْمَةً، وَأَسِرُّ لَهُمْ بِالْغَيْبِ مَوَدَّةً، وَأُحِبُّ بَقَاءَ النَّعْمَةِ عِنْدَهُمْ نُصْحاً، وَأُوجِبُ لَهُمْ مَا أُوجِبُ لِحَامَّتِي،[3] وَأَرْعَى لَهُمْ مَا أَرْعَى لِخَاصَّتي.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَارْزُقْنِي مِثْلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَاجْعَلْ لِي أَوْفَى الْحُظُوظ فِيمَا عِنْدَهُمْ، وَزِدْهُمْ بَصِيرَةً فِي حَقِّي، وَمَعْرِفَةً بِفَضْلِي، حَتَّى يَسْعَدُوا بِي وَأَسْعَدَ بِهِمْ، آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ[4].

إن أهم ما يتمناه الإمام زين العابدين (ع) في هذه الفقرات أن يسدي إلى جيرانه الأيادي البيضاء، ويقدم لهم المزيد من الخدمات التي منها:

1- أن يقابل من أساء إليه بالبر والإحسان، ليقتلع بذلك النزعة الشريرة من نفس المسيء.

2- أن يتجاوز عمن ظلمه واعتدى عليه، ولا يقابله بالمثل، وهذه سيرة جده رسول الله (ص)، فقد كان يصفح الصفح الجميل عمن ظلمه.

3- أن يستعمل حسن الظن بجيرانه، ولا يظن بأحد منهم سوءاً، والظن الحسن يجمع الناس على صعيد المحبة والألفة والوفاق.

4- أن يتولى بالبر والإحسان كافة جيرانه، الضعيف والغني، والعدو والصديق.

5- أن يلين لهم جانبه تواضعاً، ولا يكون معهم فظاً غليظاً.

6- أن يرق قلبه على أهل البلاء منهم فيحسن لهم ويدعو لهم.

7- أن يسر لهم في أعماق قلبه المودة والرحمة.

8- أن يحب لهم دوام النعمة.

9- أن يعاملهم بالإحسان والمعروف كما يعامل أقاربه وأرحامه.

10- أن يرعاهم بألطافه كما يرعى خاصته.

إن هذه الأخلاق العلوية تمثل جوهر الإسلام وواقعه، وهي تدعو بصورة إيجابية إلى بناء مجتمع متكامل، متحد بمشاعره، متماسك بعواطفه.

وعلى أي حال، فإنّ الإمام زين العابدين (ع) بعدما أعلن هذه العواطف الكريمة تجاه جيرانه تمنى أن يكنوا له (ع) مثل ما يكن لهم من المودة والحب، كما سأل من الله أن يجعل له عندهم أوفى الحظوظ، وأن يزيدهم بصيرة ومعرفة بفضله، وأن يوفقهم للقيام برعاية حقوقه.

سيرته (ع) مع جلسائه

أما سيرة الإمام زين العابدين (ع) مع جلسائه، فكان يتميز بالآداب الرفيعة والخلق الإسلامي العظيم، فكان يحترم ويكرم كل من جلس معه، وقد قال: مَا جَلَسَ إِلَيَّ أَحَدٌ قَطُّ إِلَّا عَرَفْتُ لَهُ فَضْلَهُ حتّى يقوم[5].

وكان الإمام زين العابدين (ع) يوقر جلساءه، ويقابلهم بالمزيد من ألطافه، ومعالي أخلاقه، وقد دخل عليه نصر بن أوس الطائي، فرحب به الإمام زين العابدين (ع)، وقال له: مِمَّنْ أَنْتَ؟

ـ من طي.

ـ حَيَاكَ اللَّهُ، وَحَيَا قَوْماً عُزِيْتَ إِلَيْهِمْ نِعْمَ الْحَيُّ حَبُّكَ.

والتفت الطائي إلى الإمام فقال له: من أنت؟

عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ.

أولم يقتل بالعراق مع أبيه؟

فقابله الإمام ببسمات فياضة بالبشر قائلاً: لَوْ قُتِلَ يَا بُنِيَّ لَمْ تَرَهُ[6].

ويقول المؤرخون: إن الإمام زين العابدين (ع) كان لا يسمح لأحد من جلسائه أن يعتدي على من أساء إليه، فقد دخل عليه أحد أعدائه، فقال له: هل تعرف الصلاة؟

فانبرى أبو حازم وهو من أصحاب الإمام زين العابدين (ع) فأراد الوقيعة به، فزجره الإمام (ع)، وقال له: مهلاً يا أبا حازم، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ الْحُلَمَاءُ الرُّحَماءُ، ثم التفت إلى الرجل بلطف وقال له: نعم أعرفها.

وسأله الرجل عن بعض خصوصيات الصلاة، فأجابه الإمام زين العابدي (ع) عنها، فخجل الرجل، وراح يعتذر للإمام (ع) ويقول له: ما تركت لأحد حجة[7].

لقد كان شأن الإمام زين العابدين (ع) في معالي أخلاقه مع جلسائه وغيرهم شأن جده الرسول الأعظم (ص) الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق.

سيرته (ع) مع شيعته

كان الإمام زين العابدين (ع) يتحرى في سيرته مع شيعته أن يكونوا قدوة حسنة لكل إنسان مسلم في ورعهم وتقواهم وحريجتهم في الدين، وقد جهد في تربيتهم وتهذيبهم بالأخلاق الإسلامية الرفيعة، وقد بث فيهم المواعظ والنصائح، وحفزهم على التقوى والعمل الصالح.

فقد قال الإمام زين العابدين (ع) لبعض شيعته: أَبْلِغْ شِيعَتَنا أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَ عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ، وَأَنَّ وَلَا يَتَنَا لَا تُنَالُ إِلَّا بِالْوَرَعِ[8].

إن الورع عن محارم الله من أهم الوسائل في نجاة الإنسان من عذاب الله وعقابه، كما أنه من أنجح الطرق للظفر بولاية أهل البيت (ع)، التي هي حصن من حصون الله تعالى.

ووفد جماعة على الإمام زين العابدين (ع) وعرفوا أنفسهم له بأنهم من الشيعة، فأمعن الإمام (ع) في وجوههم فلم ير عليها أثر الصلاح، فقال لهم:

أَيْنَ السَّمْتُ فِي الْوجوهِ؟ أَيْنَ سِيمَاءُ السجودِ؟ إِنَّما شِيعَتُنا يُعْرَفُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَشُعْتِهِمْ قَدْ قَرَّحَتِ الْعِبَادَةُ مِنْهُمُ الْأَنافَ، وَدَثَرَتِ الْجِبَاهَ وَالْمَسَاجِدَ، خُمْصُ الْبُطُونِ، ذُبْلُ الشَّفاءِ، قَدْ هَيَّجَتْ الْعِبَادَةُ وجوهَهُمْ، وَأَخْلَقَ سَهَرُ اللَّيالي، وَقَطَعَ الْهَوَاجِرَ جُنَتُهُمْ، الْمُسَبِّحُونَ إِذَا سَكَتَ النَّاسُ، وَالْمُصَلُّونَ إِذا نامَ النَّاسُ، وَالْمَحْزُونُونَ إِذا فَرِحَ النَّاسُ، يُعْرَفُونَ بِالزُّهْدِ، كَلَامُهُمْ الرَّحْمَةِ، وَتَشَاغَلُهُمُ الْجَنَّةُ[9].

إن هذه الصفات التي ذكرها الإمام زين العابدين (ع) إنما تتوفر في خواص الشيعة، وحواري الأئمة (ع)، أمثال عمار بن ياسر، وأبي ذر، وسلمان الفارسي، وميثم التمار، ونظرائهم ممن أترعت نفوسهم بالتقوى والصلاح، ووعوا رسالة الإسلام.

أما الأكثرية الساحقة من الشيعة فإنّما هم من أتباع أهل البيت ومواليهم، ولا شبهة أن الولاء للأئمة (ع) مما يوجب الغفران، ويدلل على ذلك ما روي عنه (ع)، حينما مرض، فقد دخل عليه جماعة من صحابة النبي (ص) لعيادته فقالوا له: كيف أصبحت يابن رسول الله فدتك أنفسنا؟

ـ في عافِيَةٍ وَاللَّهُ الْمَحْمُودُ عَلَى ذلِكَ، وَكَيْفَ أَصْبَحْتُمْ أَنْتُمْ؟

ـ أصبحنا والله لك يابن رسول الله محبين، وادين.

فبشرهم الإمام (ع) بالفردوس الأعلى لولائهم لأهل البيت (ع) قائلاً: مَنْ أَحَبَّنا لِلَّهِ أَسْكَنَهُ اللهُ في ظِلَّ ظَلِيلٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، وَمَنْ أَحَبَّنَا يُرِيدُ مُكَافَأَتَنا كَافَأَهُ اللهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ أَحَبَّنا لِغَرَضِ دُنْيَا آتَاهُ اللهُ رِزْقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ[10].

رواية موضوعة

من الروايات الموضوعة ما رواه ابن عساكر: أن جماعة من أهل العراق وفدوا على الإمام زين العابدين (ع)، فقال لهم: يا أهل العراق، أحبونا حب الإسلام، ولا تحبونا حب الأصنام، فما زال بنا حبكم حتى صار علينا شيناً[11].

وهذه الرواية افتعلت للحط من شأن الشيعة، وأنهم يغالون في حبهم وولائهم لأهل البيت (ع)، ويرفعونهم إلى مستوى الخالق العظيم، وهو اتهام رخيص لا سند له من الواقع.

إن حب الشيعة للأئمة الطاهرين (ع) القائم على أساس الفكر والوعي، ويستند إلى الكتاب العزيز والسنة المتواترة، وليس فيه أي شائبة من الغلو.

إن أهم ظاهرة في ولاء الشيعة لأئمة أهل البيت (ع) هي أنها تأخذ معالم دينها عنهم، وتلتزم بما أثر عنهم في حياتهم الدينية، ومما لا شبهة فيه أن الأخذ بفقه أهل البيت (ع) والاستناد إليه في مقام العمل مجز عن الواقع، فهل في هذه الجهة غلو وانحراف عن الدين؟

الزامه (ع) للشيعة بالتقية

وألزم الإمام زين العابدين (ع) شيعته بالتقية نظراً للظروف العصيبة الخانقة التي كانت تمر بهم، فقد كان الحكم الأموي يفتش بدقة عن العناصر الموالية لأهل البيت (ع) ليقوم بتصفيتهم جسدياً، وقد جاء أمر الإمام زين العابدين (ع) بلزوم التقية وإخفاء شيعته موافقاً للحكمة، ومتفقاً مع روح الإسلام وجوهره.

قال (ع): يَغْفِرُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِ كُلَّ ذَنْبٍ، وَيُطَهَّرُهُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مَا خَلا ذَنْبَيْنِ: تَرْكُ التَّقِيَّةِ، وَتَضْبِيعُ حُقوقِ الْإِخْوَانِ[12].

لقد حفظت التقية دماء شيعة أهل البيت (ع) في تلك العصور السود التي كان فيها الحكم الأموي يتتبعهم تحت كل حجر ومدر، فأشاع فيهم القتل والإعدام، وبلغ الحال أن من يقذف من المسلمين باليهودية والنصرانية أهون عليه من أن يوصف بأنه من شيعة آل محمد (ص)، وقد ندد بالشيعة من لا وعي له من الحاقدين على آل البيت (ع)لإلتزامهم بالتقية، ولم يعلم أنها ضرورة إسلامية ملحة، ولولا التزامهم بها لم يبق أحد يدين بالولاء للأئمة الطاهرين (ع).

استغفاره (ع) لمذنبي شيعته

وبلغ من حب الإمام زين العابدين (ع) لشيعته والموالين أنه كان يدعو لمذنبيهم في كل يوم، فقد قال (ع) لأم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر: إِنِّي لأدعو لمذنبي شيعتنا في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَائَةَ مَرَّةٍ، لأَنَا نَصْبِرُ عَلَى مَا نَعْلَمُ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُونَ[13].

ودل هذا الحديث على مدى تعاطف الإمام (ع) مع شيعته، وحبه لهم، فقد دعا لمذنبيهم بالمغفرة والرضوان، فأي برّ وأي إحسان أعظم من هذا البر والإحسان؟!

سيرته (ع) مع أعدائه

أما سيرة الإمام زين العابدين (ع) مع أعدائه والحاقدين عليه، والظالمين له، فقد تميز بالصفح والعفو عنهم، والإحسان إليهم، والبر بهم.

يقول المؤرخون: إن إسماعيل بن هشام المخزومي كان والياً على يثرب، وكان شديد البغض والحقد على آل البيت (ع)، وكان يبالغ في إيذاء الإمام زين العابدين (ع)، ويشتم آباءه على المنابر تقرباً إلى حكام دمشق.

ولما ولي الوليد بن عبد الملك الخلافة بادر إلى عزله والوقيعة به لهنات كانت بينهما قبل أن يلي الملك والسلطان، وقد أوعز بإيقافه للناس لاستيفاء حقوقهم منه، وفزع اسماعيل كأشد ما يكون الفزع من الإمام زين العابدين (ع) لكثرة اعتدائه عليه، وإساءته له، وقال: ما أخاف إلا من علي بن الحسين، فإنه رجل صالح يسمع قوله فيّ.

أما الإمام زين العابدين (ع) فقد عهد إلى أصحابه ومواليه أن لا يتعرضوا له بمكروه، وأسرع إليه فقابله ببسمات فياضة بالبشر، وعرض عليه القيام بما يحتاج إليه من معونة في أيام محنته قائلاً: يا بْنَ الْعَمِّ، عافاك اللهُ، لَقَدْ سَاءَني ما صُنِعَ بِكَ، فَادْعُنَا إِلَى مَا أَحْبَبْتَ. وذهل اسماعيل وراح يقول بإعجاب: الله أعلم حيث يجعل رسالته فيمن يشاء[14].

ولنستمع وتمعن في دعاء الإمام زين العابدين (ع) بالمغفرة لأعدائه وظالميه، وإلى ما اقترفوه من الاعتداء عليه.

يقول الإمام زين العابدين (ع): اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَالَ مِنِّي مَا حَضَرْتَ عَلَيْهِ، وَانْتَهَكَ مِنِّي ما حَجَرْتَ عَلَيْهِ، فَمَضَى بِظُلامَتي مَيِّتاً، أَوْ حَصَلَتْ لِي قِبَلَهُ حَيَا، فَاغْفِرْ لَهُ مَا أَلَمَّ بِهِ مِنِّي، وَاعْفُ لَهُ عَمَّا أَدْبَرَ بِهِ عَنِّي، وَلَا تَقِفْهُ عَلَى مَا ارْتَكَبَ فِيَّ، وَلَا تَكْشِفْهُ عَمَّا اكْتَسَبَ بِي.

وَاجْعَلْ ما سَمَحْتُ بِهِ مِنَ الْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَتَبَرَّعْتُ بِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ، أَزْكَى صَدَقَاتِ الْمُتَصَدِّقِينَ، وَأَعْلَى صِلاتِ الْمُتَقَرَّبِينَ، وَعَوَّضْنِي مِنْ عَفْوِيَ عَنْهُمْ عَفْوَكَ، وَمِنْ دُعَائِيَ لَهُمْ رَحْمَتَكَ، حَتَّىٰ يَسْعَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَا بِفَضْلِكَ، وَيَنْجُوَ كُلٌّ مِنَّا بِمَنَّكَ…[15].

حقاً لقد كان الإمام زين العابدين (ع) نسخة لا ثاني لها في تاريخ البشرية عدا آبائه الطاهرين (ع)، لقد كان في سلوكه دنيا من الشرف والنبل والإنسانية مما يعجز عنه الوصف، ويقصر اللفظ أن يحيط أو يلم به.

الاستنتاج

أن سيرة الإمام زين العابدين (ع) تجسد قيم الرحمة والعطف بوضوح، حيث كان يعامل مماليكه كأبنائه، ويظهر لهم الرفق والحنان، كما كان بارا بجيرانه، يعولهم ويعود مرضاهم، ويدعو لهم بالتوفيق والسداد، وتميز أيضا بالصفح عن أعدائه، داعيا لهم بالمغفرة، مما يعكس إنسانيته العالية، ومن هنا، أصبحت سيرته نموذجا للأخلاق الإسلامية، حيث غرس في نفوس أبنائه قيم البر والإحسان، مؤكدا على أهمية الورع والطاعة لله، لقد جعله ذلك مثالًا يحتذى به في التاريخ، ومصدر إلهام للأجيال.

الهوامش

[1] المجلسي، بحار الأنوار، ج46، ص103.
[2] ابن عساكر، تاریخ مدينة دمشق، ج41، ص٣٨٧.
[3] الحامة: الأقارب.
[4] الإمام زين العابدين، الصحيفة السجادية، الدعاء السادس والعشرون.
[5] ابن عبد البر، أدب المجالسة، ص34.
[6] ابن عساكر، تاریخ مدينة دمشق، ج٤١، ص٣٦٧.
[7] ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص274.
[8] الشامي، الدر النظيم، ص٥٨٧.
[9] المجلسي، بحار الأنوار، ج65، ص169.
[10] الشبلنجي، نور الأبصار، ص127.
[11] ابن عساكر، تاریخ مدينة دمشق، ج41، ص292، الشين: ضد الزين، أي العيب.
[12] المجلسي، بحار الأنوار، ج72، ص415.
[13] الفيض الكاشاني، الوافي، ج2، ص183.
[14] ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج5، ص220.
[15] الإمام زين العابدين، الصحيفة السجادية، الدعاء الثامن والثلاثون.

مصادر البحث

1ـ ابن سعد، محمّد، الطبقات الكبرى، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1410 ه‍.
2ـ ابن شهرآشوب، محمّد، مناقب آل أبي طالب، النجف، المكتبة الحيدرية، طبعة 1376 ه‍.
3ـ ابن عبد البر، يوسف، أدب المجالسة، تحقيق سليم حلبي، طنطا، دار الصحابة للتراث، الطبعة الأُولى، 1409 ه‍.
4ـ ابن عساكر، علي، تاریخ مدينة دمشق، تحقيق علي شيري، بيروت، دار الفكر، طبعة 1415 ه‍.
5ـ الإمام زين العابدين، علي، الصحيفة السجادية، قم، نشر الهادي، الطبعة الأُولى، 1418 ه‍.
6ـ الشامي، يوسف، الدر النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم، قم، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1420 ه‍.
7ـ الشبلنجي، مؤمن، نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار (ص)، قم، منشورات الشريف الرضي، الطبعة الأُولى، 1380 ه‍.
8ـ الفيض الكاشاني، محمّد محسن، الوافي، تحقيق ضياء الدين الحسيني، إصفهان، منشورات الإمام أمير المؤمنين (ع)، الطبعة الأُولى، 1411 ه‍.
9ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه‍.

مصدر المقالة (مع تصرف)

القرشي، باقر، موسوعة سيرة أهل البيت (ع)، تحقيق مهدي باقر القرشي، النجف، دار المعروف، الطبعة الثانية، 1433 ه‍، ج15، ص64 ـ ص74.

لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *